تدهورت صحته بعد عودته من مأتم أخته، رقد في فراشه، ولم يعد يقوى على الحركة.
نظر إليها شزرًا حين حاولت أن تضع ملعقة الحساء في فمه، عيناه لم تفقدا شيئًا من قسوتهما، حدق فيها للحظات، وفتح فمه، وانسكب السائل الساخن بين شفتيه، كان جسده قد انكمش، وضعف حتى صارت قادرة على احتوائه بين ذراعيها كطفل صغير.
بلع الحساء بصعوبة، وفتح فمه ثانية، وأطعمته.
وهنت قواه تمامًا، قطعا الطريق الطويلة الفاصلة بين داره ودار أخته على أقدامهما، اقترحت عليه حين رأته يلهث، والعرق يتصبب منه أن تستوقف سيارة أجرة أو عربة، وعنفها بشدة وجسده يرتجف، لو كان بكامل عافيته لرماها أرضًا، وأشبعها ركلاً، تريده أن ينفق أمواله على سيارات الأجرة؟ وماذا أيضًا؟ يستأجر طائرة ليعود لبيته؟
اتكأ عليها، وواصلا المشي بتؤدة، يخطو خطوتين، ويلكزها؛ لتقف حتى يستريح، وصلا منهكين تمامًا، هو بسبب الجهد الذي قام به، وهي بسبب التعنيف الذي تعرضت له.
زم شفتيه، وأدار وجهه، وأبعدت صحن الحساء، سكبت بعض الماء، ورمت فيه قرص أسبرين، الدواء الوحيد الموجود في الدار، انتظرت أن تذوب الحبة، وانحنت نحوه تدعوه ليبلع الدواء، رفض، ولمع بريق غاضب في عينيه، همهم بشيء، تبينت اسم أخيه، يريده أن يأتي إليه، هزت رأسها، وقامت، وتركت الدواء قربه.
لم تكن في العادة تحلم بأن يسمح لها بالخروج من الدار، مرضه أجبره على التغاضي عن كثير من المحظورات.
بلَّغت أخاه بأنه يطلبه، سألها ماذا يريد منه، زبائنه يشغلونه، ولا يمكنه إغلاق دكانه في هذا الوقت، ألحت عليه، أخوه الكبير يتأرجح بين الحياة والموت، ويريد رؤيته، رافقها متذمرًا، لم يَجن من إخوته غير صداع الرأس، واحدة ماتت وتركت ديونًا لا يدري كيف يستخلصها من زوجها المعدم، والثاني يريده أن يترك تجارته ويتفرغ لأوامره ونواهيه.
أشار لها زوجها؛ لتخرج حين قدمت مع أخيه، تركتهما معًا، وجلست في المطبخ، الآنية القليلة تشي بضنك حياة أهل الدار، ضنك لا علاقة له بضيق اليد، الأمر أبعد ما يكون عن ذلك، أموال زوجها المكدسة في البنك تستعصي على الحساب، وراتب التقاعد الكبير الذي يتلقاه من شركة فرنسية عمل فيها أزيد من ثلاثين عامًا يكفي لإعالة عدة أسر.
لا، لا ينقص زوجها خير، ولكنه شحيح، وشحه مضرب المثل، رفض الذهاب إلى المستشفى، ولم يرغب أن ينفق درهمًا واحدًا في شراء دواء من الصيدلية، حبات الأسبرين التي تعطيها له كلما اشتدت عليه الحال جاءتها بها إحدى جاراتها.
فضل أن يتعذب في سريره على أن يفتح حافظة نقوده.
سمعت جلبة، وخرجت تستطلع ما يحدث، أخو زوجها يحمل زوجها على ظهره، ويتقدم نحو الباب، جرت إليهما، وقلبها يخفق من الرعب هل اشتد عليه المرض؟ نهرها زوجها بعينيه، وتجاهلها أخوه، خرجا وتركاها تدور حول نفسها كالمجنونة.
ساعات طويلة كأنها أعوام.
عادا، زوجها محمول دائمًا على ظهر أخيه، والأخير مثقل بكيس بلاستيكي أسود كبير جدًا كأكياس النفايات، دخلا الغرفة وأغلقا الباب عليهما، وعادت لقرفصتها في المطبخ.
لم تجرؤ على الاقتراب من الباب.
سمعت حركة، وصرخة مكتومة، وتلا ذلك صمت تخللته حركة مريبة، قامت حتى الباب، ثم رجعت، واستدارت ثانية، وبقيت متأرجحة بين الدخول والبقاء حيث هي.
فتح الباب بغتة، وتقدم أخو زوجها وفي حضنه لفافة كبيرة من القماش، أمرها بأن تترك زوجها يرتاح إلى أن يعود لزيارته بعد الظهر.
لم تطمئن، لكنها لم تجرؤ على مخالفة أمره.
دارت في البيت، لم يكن ثمة ما تطبخه، شربت بعض ما تبقى من الحساء، وسخنت شيئًا منه لزوجها، وقامت بعزم تحمله له، يجب أن تطمئن عليه.
كان ممددًا على السرير، مخطوف اللون، هاديء الأنفاس، جثت قربه، ووضعت الأكل على الأرض، ولمحت طرف كيس أسود تحت السرير.
رفعت عينيها لتلتقيا بعينيه.
فتح فمه، وكرر نفس الحروف حتى فهمت ما يعنيه، الكيس، مدت يدها تخرجه، لم يعد كبير الحجم مثلما كان عندما دخلا هو وأخوه.
صرخ حين رآه وشد صدره بألم، وضعته قربه، وتحامل على نفسه ليلتصق به.
كلماته المتعثرة أتت على ما تبقى من قواه، «أخي... سرقني، نقودي...» كانت تلك آخر كلماته.
وجده أخوه قد فارق الحياة، أخبرها بأنه طلب منه أن يأخذه إلى البنك ليخرج أمواله، وقال إن عليها أن تترك الكيس في عهدته ليصرف منه على الدفن، والمأتم، والعزاء، وما إلى ذلك، وأخذه.
لم تقل شيئًا، لعنت وسخ الدنيا، وبكت.