الإعصار


"لا تقتربي أكثر من ذلك؛ فأنا الإعصار المتوحش".

"لا تبتسمي أجمل من ذلك؛ فجحيمي بالبسمة يبطش".

"أنا نار براكين مندلعة؛ الويل لمن تتجاوز خط الرجعة".

"مدفأتي تحرق من تتجاوز خط الدفء إلى لحظة تنصهر الشمعة".

أشياء من هذا القبيل وجدتها أمامي على المكتب، في ورقة مكرمشة كالوجه الذي يطالعني، الشخص جالس على الكرسي المقابل، يتفرسني بلهجة تشوبها بعض الثقة، ولما طال انتظار عينيه لشفتيّ قال:

- ما رأيك؟ (قالها بعظمة مرتعدة)

في الحق لم أكن متحمسًا جدًا لما كُتب، كما لم أكن مستهجنًا له من الناحية الجمالية، رغم ما فيه من فتونة لا تنطبق على السحنة العجوز التي تواجهني الآن بغرور ذليل يتسول تعليقًا على عبقريته التي يراها شبه أكيدة.

نزلت بعينيّ قليلاً في العطور؛ لعلي أكوّن رأيًا فأريحه وأستريح، وإذا بفارس الفرسان يقول:

"ويلٌ لكل قدٍّ مدوَّرْ، لكل غصن حُلو متهوِّر"

"وماد أخضر، وجاد أزهر، وزاد حسنًا، ماذا تصوَّر؟"

"من نار عيني إذن تدمَّر"

ولما رأيت الركاكة بدأت تسود استعرت منه شجاعة الأسود وقلت:

- يعني...

(وقد انطبقت السماوات على الأرض انطباقًا واحتدم الوجه المغضن)

- يعني؟!.. ماذا تعني؟!

- أعني "نُص نُص"

- وتعيدها؟! بلغت بك الجرأة أن تقولها في وجهي؟!

- حاولت اصطناع البرود وإن كنت قد ضقت به:

- لماذا وقفت مني موقف التلميذ مادمت ترى نفسك أستاذًا؟

- كنت أريد نشرها عندكم

- آسف، طلبك مرفوض

قلتها وفورًا، بدأت أهدأ قليلا، وأندم قليلاً، بعد أن نفثت غضبي، وهو الآخر تغير، بدأ يجر ناعمًا ويتنازل عن كبريائه المصطنع.

- هل هذا قرار نهائي؟

نظرت إليه ولم أرد... مترددًا.

- هل أطمع أن تعيد النظر؟

وجدت نفسي أكمل القصيدة، وأسترق اللمح بين السطر والآخر لتاريخ الإنسانية المحفور غضونًا وتجاعيد في وجه الفارس العاشق الصعب المغوار:

"يا فراشات العالم لا تقتربن؛ ستحترقن".

"يا نساء العالم ابتعدن؛ ستحترقن".

"أنا إعصار الحب الأعتى، شوقي الأعشى".

"وجميع حروفي مرتعشة، ستنجرفن".

وجدت نفسي أضحك، بصوت عالٍ أضحك، نظر لي مذعورًا، كان يتوقع أي شيء إلا هذا، ندمت على الفور، أخذتني به شفقة، ما ذنبه إن كان مجنونًا؟ أو إن لم يكن شاعرًا كبيرًا كما يتصور؟

ووجدتني أواسيه بشكل متوارٍ:

- اترك مسألة النشر للمستقبل، هناك عدة اعتبارات تحكمني، لكن قد تأتي فرصة قريبًا.

غمرته فرحة:

- إذن أعجبتك القصيدة.

- اعذرني؛ كنت منفعلاً لأسباب تخصني.

- هي إذن جيدة؟.

- (مضطرًا) جيدة.

- جيدة فقط؟

(آه! لماذا تصر على تعقيد الأمور؟ ماذا أقول الآن؟

ألهمتني غضون وجهه الإجابة)

- القصيدة طريفة؛ لذلك ضحكت، قصيدة حب كوميدية، وهذا في حد ذاته تجديد.

عاد الشك يتسلل لملامح وجهه، لكني أرحته على الفور:

- صدقني، لا أقصد السخرية.

وحقًا لم يكن قصدي سوى التخلص من الموقف بأقل قدر ممكن من الكذب أو القسوة.

يبدو أنه اطمأن فقام، ورأيت في عمق عينيه تاريخًا سحيقًا من الذل. لم أنتبه إليه إلا في تلك اللحظة.

يبدو أن فارسنا المغوار، وعاشقنا الجبار، وشاعرنا الإعصار يحمل سجلاً سريًّا من الهزائم.

قمت أودعه وسرت معه إلى الباب، وعلى المكتب قصيدته، والسطور الأخيرة التي ضحكت قبل أن أصل إليها:

"اقتربي أكثر من ذلك".

"ابتسمي ما أجمل ذلك".

"شاخ العمر وكنت نضيرًا".

"وأنا الآن عجوز هالك".

"يذوي في أعتاب جمالك".

يخطر لي الآن أن طفور الدمع بعد فاصل طويل من الضحك اللذيذ مدعاة للتأمل والفلسفة.

أليس ما يدعو إلى الضحك يدعو أيضًا إلى البكاء؟

فسبحان من أضحك وأبكى، وخلق دنيا حمّالة أوجه، فيها من الأسى قدر ما فيها من البهجة، وأحيانًا يمتزجان في مذاق طيب مرير، وأحيانًا هي المرارة وحدها، أو هي الفرحة خالصة، لكن هذا نادر الحدوث.

إنما نحن عادة نبكي إذا فرحنا، ونضحك من شر البلية، نضحك ونبكي سخرية ورثاء؛ لضعف الإنسان وتعاسته وإصراره المضحك على السعادة، إصراره الذي يستحق الاحترام والتعاطف، جنبًا إلى جنب مع السخرية والرثاء.