تعجبت كيف مرَّ بي الزمن وكيف سارعت السنوات في خطاها من دون أن أشعر بمرورها؟! واسترجعت شريط حياتي لأعرف ما الذي حققته في رحلة كفاحي التي كنت أراها طويلة، لكنني الآن اكتشفت كم كانت الرحلة أقصر مما كنت أتوقع، ففي لحظة انزويت أفكر فيها مع نفسي، استرجعت خلالها رحلتي مع أبنائي، وتذكرت كم كنت أشعر أحيانًا بأنهم مقيدون بي وأنا مقيدة بهم، وواجبي يحتم عليَّ أن أقوم بدور الأم والأب معًا. كنت أنتظر أن يجري العمر سريعًا؛ لكي يكبروا وأرتاح من ثقل المسؤولية، تذكرت سهري وانشغالي فكل تفكيري كان محصورًا في دائرتهم وتذكرت كم تألمت لمرضهم وكم تعبت من تعبهم، وكم بكيت من بكائهم، كم فرحت لسعادتهم، كم سررت لنجاحهم، كم أرهقت من المشاكل ومن الشكوى والتذمر والتمرد، التي كانت تستنزف جهدي وأعصابي، كنت أصارع الظروف وتصارعني، وأحارب المعاناة وتحاربني حتى أتمكن من تحقيق مطالبهم وكل ما يحلمون به، مضى العمر بي من دون أن أشعر، فقد كنت أعيش على أمل واحد أن أُحسن تربيتهم وتوجيههم، وأن أدعمهم وأشجعهم لأرى نجاحهم وتفوقهم. كنت معهم القلب الحنون والعين الناظرة والعقل المدبِّر في كل مراحل نموهم، وقد تحولوا أمامي خطوة بخطوة بفضل من الله وعونه لي إلى شباب، وفي عزِّ إرهاقي بثقل المسؤولية الملقاة على عاتقي أتذكر بين لحظة وأخرى أني بشر ولست إلها. أنثى وليس جمادًا وبشكل أو بآخر أردت أم لم أرد، رضيت أم لم أرض، كان يعيشني الإحساس بالوحدة وينتابني إحساس بالغربة الداخلية ويجتاحني الفراغ العاطفي لحظات تؤرقني، فيها مشاعر أنوثتي، حتى وأنا مقتنعة وراضية بما قسمه لي رب العباد كان إحساس الوحدة يحيط بي، وكنت أسأل نفسي: ترى متى سأعيش حياتي؟ وكنت أقول لنفسي: إنهم قد كبروا ولم يعودوا بحاجة لرعايتي، ترى هل سيوازي الحصاد ما تعبت سنوات في زرعه؟ وهل سيشعرون بي كما كنت أشعر بهم؟ هل سيضحون من أجلي كما ضحيت من أجلهم؟ هل سيملأون حياتي كما ملأت حياتهم؟ هل سيمسحون دمعي كما مسحت دموعهم؟ هل سيحتوونني كما احتويتهم؟ كل تلك المعاني شغلت فكري وأنا أتأملهم بعد أن بدأ كل منهم يشق طريقه ويبني مستقبله، ويبدأ حياته الخاصة بعيدًا عني، فبعد أن كانوا كل حياتي أصبحت أنا جزءًا من حياتهم، وبعد أن شاركتهم في تفاصيل حياتهم هم الآن مشغولون بحياة أخرى، أعلم أنها سنة الحياة، لكن الآن أنا التي أحتاجهم. أحتاج وجودهم إلى جانبي. فأنا أحس وأعرف ما يبكيهم وما يسعدهم وما يفكرون فيه وما يخططون له. أشعر بما في أعماقهم من نظرة عيونهم، أعرف من يقف وراء بابي من خطواتهم وتغمرني السعادة عندما يجتمعون حولي، وأشعر بأن حياتي أثمرت، وأن تضحيتي لم تذهب سدى، ويتلبسني الفخر والزهو عندما يتسابقون لإرضائي ويتفننون في إسعادي ويبذلون كل جهدهم لتعويضي، ويفتخرون دومًا بأنني كنت الدافع والسند والحماية بعد الله سبحانه وتعالى. نعم حقيقة أن الفضل كله لله، فقد وهبني هذه النعمة، فهم أحلى ما في عالمي، إنهم امتداد لي وأهم إنجاز حققته في حياتي، فكل ما في العالم يمكن أن أعوضه إلا مشاعر أمومتي، أبدا لا تعوض.
همس الأزاهير
الله يا أمي: من مدحني صدقته ولو جعلني إمام الأنام وبدر التمام، ومن ذمني كذبته ولو شهد له العدول وزكَّاه الثقات، أبدا أنتِ الوحيدة المشغولة بأمري، وأنتِ الفريدة المهمومة بي، الله يا أمي: أنا قضيّتك الكبرى، وقصتكِ الجميلة، وأمنيتك العذبة، تُحسنين إليَّ وتعتذرين من التقصير، وتذوبين عليَّ شوقًا وتريدين المزيد، يا أمي: ليتني أغسلُ بدموع الوفاء قدميكِ، وأحمل في مهرجان الحياة نعليك.
د. عائض القرني