شهامة رجل أحمق

ابنتي تشير بإصبعها إلى الراكب الجالس قربنا، في الصف الأيسر. يحدث نفسه منذ انطلقنا، يحك رأسه، يقوم ثم يجلس، يتكئ على ظهر المقعد، يتطلع إلى الركاب، ويقهقه عاليًا وكأنه سمع نكتة مضحكة.
«لا شأن لنا به. أكملي تلوين رسمك»
تجلس قرب النافذة، وتشرئب بعنقها الصغير؛ لتتابع ما يفعله الرجل.
بيني وبين الرجل ممر الحافلة الضيق. يجلس هو أيضًا قرب النافذة. المقعد الذي يجاوره خالٍ، لم يجرؤ أي من الركاب على الجلوس عليه.
أرمقه بطرف عيني. شعره أشعث. ذقنه غير حليقة. يده تمتد بين الفينة والأخرى؛ لحك رأسه، وإبعاد ياقات قمصانه الثلاث عن رقبته. خليط الملابس الغريب الذي يرتديه يجعلني أشك أكثر في سلامة عقله، كأنه أفرغ دولابه بالكامل وقرر أن يتحول إلى مشجب متنقل.
ابتسمت دون أن أشعر، وقفزت هلعًا من مكاني وأنا أسمعه يصيح بحدة بالغة: «آه، إنها تضحك الآن، إنها تضحك. هل دغدغها أحد منكم؟ هل قال لها شيئًا؟ إنها تضحك. فلنضحك معها...»
انفجر بقهقهة عالية، وبرد دمي؛ إنه مجنون.
«ماما، أنظري...»
أمرت ابنتي أن تنشغل برسومها، وتدع الرجل وشأنه. دق قلبي بفزع. واسترقت نظرات خاطفة إلى بقية الركاب الذين تظاهروا بأنهم لم يلحظوا شيئًا. لا رغبة لأحد في التورط بمشاكل لا شأن له بها. لدى كل منهم ما يكفي من الهموم، ويزيد...
«ولكن أنظري يا ماما...»
صغيرتي لا تسمع الكلام، تنهدت والتفتت بحذر. وقف الرجل وبدأ يفرغ محتوى جيوبه على المقعد الذي يجاوره: مفاتيح، وأكل، وسكاكر، وأوراق، وهاتف... لا... هاتفان... ثلاث هواتف محمولة، و... أربع حافظات نقود، ومزيد من المفاتيح.
«ماما... إنه... إنه لص!»
وضعت يدي بوجل على فم ابنتي، ولكن كلماتها كانت قد خرجت، وسمعتها، وسمعها الرجل، وسمعها الركاب!
خيم صمت قاتل على الحافلة، حبست أنفاسي، وبقيت يدي مطبقة على شفتي ابنتي.
«إنها لطيفة! أنظروا كم هي لطيفة! هذه الأميرة الصغيرة... يمكن أن تكون ابنتي!»
كان لايزال واقفًا. في يده قصاصة ممزقة، صورة طفلة شقراء جميلة، بعينين زرقاوين.
«ابنتي... أحبها» قبل القصاصة بشغف، وضحك ضحكته الغريبة، وجلس، وبدأ يتفقد «أشياءه»: عبث بالهواتف الثلاثة، وقضم بعض الخبز، ووضع حافظات النقود الأربع فوق ركبتيه، وأخذ يخرج محتوياتها.
لم أفلت أيًا من حركاته، ولا أظن أحدًا من الركاب فعل.
خفف السائق السرعة، وحررت ابنتي من قبضتي. هل فهم أخيرًا أن عليه أن يتدخل؟
لا... فتح مساعده القابع في الخلف الباب لسيدة تحمل رضيعًا وسلة أغراض. جالت نظرات المرأة في المكان وتوجهت نحو مقعد شاغر.
تحركت الحافلة، وعاد إليّ هلعي. لا يمكن أن يكون هذا الرجل سويًا. إنه لص... لا شك في ذلك. لم لا يفعل أحد شيئًا؟
أفرغ المقعد المجاور له من كل أغراضه. رماها أرضًا وتركها: المفاتيح، والأوراق، والأكل، والهواتف... وبدأ يضع النقود التي يخرجها من الحافظات على المقعد. الأوراق النقدية في جانب، والفكة في جانب آخر. يفعل ذلك ببطء. وبدون ارتباك أو حذر.
«ماما...» ضممت ابنتي إليّ ودفنت وجهها في صدري. «لا تقولي شيئًا»! أمرتها بعصبية.
مساعد السائق لا يكترث بالرجل، أو لعله يتظاهر بذلك، وقف قرب المرأة التي صعدت، وطلب منها ثمن الرحلة.
«هذا كل ما لدي» مدته بشيء رفضه وحذرها: «ادفعي المبلغ كاملاً أو انزلي. لسنا دارًا خيرية».
توسلت إليه المرأة. طفلها مريض وعليها أن تنقله إلى المستشفى في المدينة. لا مال لديها حتى لشراء الدواء. ولا تدري كيف تتصرف.
سحب المساعد سلتها، وأراد أن يوقفها بالعنف، وصاح في السائق لكي يتوقف.
كيف وقع ما وقع؟ لست أدري. هب «المجنون» من مكانه وخلص المرأة بلمح البصر من قبضة المساعد، وشنق عليه. صاح المساعد، وشتمه المجنون، وقام الركاب يحاولون تخليصه، وأوقف السائق الحافلة أخيرًا.
مد المجنون رزمة أوراق نقدية للرجلين: «هذا ثمن رحلة السيدة»، وجمع كل ما تبقى له من مال ووضعه في حجر المرأة: «من أجل الطفل» قال لها، ورجع وهو يضحك ملء فيه إلى مقعده.
عمنا الذهول، والتصقت بابنتي وأنا أبتسم بحرج.