سامحيني، خرج الأمر من يدي. عليّ أن أذهب حافيا إلى شاطئ البحر. في جلباب البيت أخرج. لحيتي تشتاق أن تبتل. جسدي أن يدفن في الرمل الساخن، بعد أن أغتسل بالماء والزبَد.
أريد أن أغمض عيني في وجه الشمس، ويسرح خيالي في أشياء لا تمت لحياتي بصلة، أن أتذكر أشياء نسيتها من طفولتي المبكرة، وأنسى كل ما أتذكره الآن.
سامحيني إذا نسيت الأوراق والستائر والجدران، إذا توغلت في البحر حتى أنغمر تماما، وللعجب أظل أتنفس.
أغوص في ملكوت البحر، لا أخونك مع العرائس، أطارد فراشات ذات زعانف، تجرحني وردة من زهر المرجان، يحكي المحار لأذني حواديت مضحكة أو مشوقة، أو حتى حزينة. يغسل الماء الحزن أولا بأول.
تنفخ العرائس في مزمار من محار، ويرقصن رقصة مرحة، وهن طبعا حافيات مثلي. أهم شيء أن يكون الإنسان حافيا.
الرمل نظيف والماء طهور، حتى الجلباب طوحته في الريح.
سامحيني إذا تأخرت قليلا، إذا لم أعد إلا بعد يومين، فمنذ زمن طويل لم أذهب للبحر، لم أطأ الرمل الساخن قافزا، وأرتعش من الماء البارد. كتب الله عليّ أن أكون بريا، ومن أهل المدن، أسكن في قطعة جبن هائلة من حجرة تعشش في ثقوبها أرواح تحن للبراح، يرتدون الأحذية خوفا من اتساخ القدمين وتجرحهما، ولسع الأسفلت الذي يفوق سخونة الرمل، فالرمل أمره سهل؛ لأن البحر قريب، وتستطيع أن تعدو المسافة القصيرة بين الرمل الساخن والرمل الدافئ ثم الماء.
أما الأسفلت فإن مشيت عليه حافيا تجرحت قدماك واسودتا، وفي الحر تحترقان بالقار المصهور، والشارع طويل والرصيف بعيد، والشمس تختلف عن شمس البحر، شمس صحراوية شرسة، عصبية متعصبة، تنذر بالنار والشنار وتفي بوعدها.
سامحيني إذن إن سبحت وحيدا، ووجهي في الماء أبصر كل شيء، وأتنفس بأنفي الآدمي، وأحبك أكثر من أي وقت آملا أن أعود إليك جديدا، كما لو لم تكن الأرض قد مسختني وجعدتني.
وسبحان من خلق البحر والبر، سبحانه وتعالى، أراد لنا ما نراه، وأردنا ما نحياه، بكل ما فيه من خير ومن شر عميم.
والحمد لله الذي أتاح لنا لحظات الصفاء؛ لنختلي بالماء ونغتسل فيه من همومنا ومن أرواحنا ومن أجسادنا.
أريد أن تأتي معي، فلماذا تنامين طويلا هكذا؟ هلمي إلى الماء لنسبح فيه معا، علنا نستعيد الذي ضاع منا، ونحن نسير في زحمة الطرقات.
تعالي معي، هل تسمعين؟ تريدين أن تنامي؟ سأذهب وحدي إذن.
حافيا حافيا حافيا، في جلبابي حنين، في جلبابي حزن عتيق معتق. فاغفري لي إن تركتك وحدك. سأعود بعد قليل. ليس قليلا جدا. يومان على الأكثر. بل ثلاثة، ثلاثة أيام فقط، أغتسل فيها من هذا العالم، من نفسي، ومن حبي الذي لا يستطيع أن يحضر البحر تحت شرفتك، ويفرش الرمل سجادة لخطوتك الحافية.
سامحيني إذا ما سمحت لنفسي بأن أبتعد قليلا، ربما عدت إنسانا أفضل، ومحبًا أرق وأحن.
إنني أحلم طبعا. لن أذهب للبحر إلا في خيالي. أحتاج أن أكون مجنونا كي أخرج هكذا، وأفعل ما لا تقبله الأعراف والسنن، حافيا في جلباب كأني متسول، وكي أسير الطريق الطويل إلى البحر، ثم آتي بأعجوبة التنفس في الماء، وكل باقي الحلم الجميل.
سامحيني، إذا سمحت لنفسي بأن أحلم وأنا في هذا العمر، حيث يجدر بي أن أكون وقورا عاقلا متزنا، بما يتناسب مع لحيتي على الأقل.
إن هذا الحلم أسعدني قليلا، فسامحيني إن سعدت وحدي.
أكتب لك هذا الخطاب عساه يحظى بعفوك، وربما سلّاك قليلا، أو أعجبك أسلوبي فإن لم يعجبك فسامحيني