ضد كل شيء

صعد الشبان الثلاثة في تقاطع الشارعين الرابع والخامس، انتبهت... لأصواتهم العالية، وألقت نظرة عليهم عبر مرآتها الأمامية، في العشرينات، وربما أقل، ثياب لاصقة، تصفيفات شعر على الموضة، وحركات أيد وأرجل مستفزة، كأنهم يؤدون أدوارًا على خشبة مسرح. وباقي الركاب ملزمون بالتفرج عليهم والتصفيق بحرارة.

تملكها الامتعاض، وحاولت أن تبقي عينيها على الطريق.

تركت في البيت ولدًا يشبههم، يغط في النوم، وسماعة جهاز موسيقاه التي لا تفارقه مدسوسة في أذنيه.

تنهدت.

اقترب الشبان الثلاثة منها، تصنعوا الدهشة، أو ربما شعروا بها حقيقة، سائق الحافلة امرأة، يا للعجب! هذه أول مرة يركبون فيها حافلة تقودها امرأة..!

ضحكوا بضجة، وضربوا أيدي بعضهم، وتأهبوا لوصلة مزاح ثقيلة.

هزت كتفيها، مثل ولدها تماما، ضيقو الأفق، وسطحيون، قالها لها طليقها: الولد ليس مسخا، عصره هو الممسوخ، لا فائدة من مواويل الوعظ والإرشاد التي ترددها على مسامعه ليل نهار، لن يعود للكلية كما تتمنى في أعماقها، ولن يتعلم حرفة، ولن يبحث عن شغل، ولن يحلق شعره، ولن يزيل الحلقات المعدنية التي علقها في أذنيه وأنفه ولسانه وحتى فتحة بطنه. الولد ساير زمانه، وعليها هي أن تسايره أيضًا، وتخلص نفسها من وجع الرأس.

حكى أحد الشبان كيف هرب على متن دراجته النارية من شرطية مرور تجرأت على إيقافه، كان أمامها حلان: إما أن تجري خلفه، وتغامر بإفساد تسريحتها التي كان يبدو واضحًا أنها قضت وقتا طويلاً في تثبيتها تحت القبعة، أو تطلب المساعدة وتضع نفسها في موقف ضعيف أمام زملائها الرجال..!

ضحك الثلاثة، وهتفوا بحياة المرأة العاملة.

لم يشاركهم الركاب المزاح. لمحت في مرآتها من يشيح منهم بوجهه بارتباك، ومن يتظاهر بأنه لم يسمعهم، ومن ينشغل فعلاً عنهم بالحديث أو بتتبع ما يجري في الطريق. وضاق صدرها.

هل تترك ولدها يضيع بذريعة أنه يماشي متطلبات زمانه؟ هل من الطبيعي أن يصبغ شاب في الثلاثين جدران حجرته بالسواد، ويشوه خلقته، ويدمن تناول الكحول والمنشطات، ويعلن أنه ضد كل شيء؟

كيف يستطيع والده أن ينام على جنب الراحة، والولد يغرق كل يوم أكثر؟ كيف لا يشعر بالقلق؟ كيف لا يتملكه الجنون؟

«كل النساء ضعيفات!» أعلن أحد الشبان الثلاثة، واستفاقت من شرودها العابر، ونظرت إليه بحنق. أصغر من ولدها، لكنه يماثله نزقا وصبيانية وقلة أدب. لا تنقصه سوى الحلقات المعدنية والأوشام.

 تخيلت الجحيم الذي تعيش فيه أمه.

 كلهم أنانيون، وقساة قلب..

لفت شارعين ولم ينزل الثلاثة بعد، ضجيجهم يربك الركاب، يقفون في الممر، لا يتمسكون بشيء، ولا يقعون، رغم دفعهم بعضهم بعضًا، يتحركون بحرية كما لو كانوا يقفون على أرض ثابتة.

التقت عيناها في لحظة ما بعيني الصغير الذي شبهته بولدها، حملقت فيه بغيظ، ولم يخفض بصره، ولم يدر وجهه، بادلها الحملقة بوقاحة واستفزاز.

لكزه أحد صديقيه، وأعلن دون أن يكف عن النظر إليها: «تعلمان؟ سياقة المرأة لا تطمئن..»

ضحكا «لا تطمئن؟ نتحرك مثل السلحفاة منذ ساعات، لن نصل إلى حيث نريد قبل الليل!.»

ضحكا ثانية، ونبههما: «أنظرا إليها في المرآة، عيناها لا تكترثان أبدًا بالطريق. انظرا!»

التقت عيناها بعيون الشباب، وصفر أحد الثلاثة، ورفع آخر يده ملوحًا: «هالو مدام! أنت تقودين حافلة.. هل نسيت؟».

والتفت الصغير إلى الركاب: «من كان منكم حريصًا على روحه فلينزل، أنتم في خطر، سائقتنا تبادلني النظر في المرآة، ولا تهتم بالطريق! ».

احمر وجهها، واضطرت صاغرة إلى أن تشيح بعينيها وتنظر أمامها.

تماما كولدها، فكرت وهي تشتعل غيظا.. مستفز وحقود.

توقفت في المحطة التالية، وتحرك الشبان الثلاثة نحو الباب بصخب، وأعلنوا للركاب بأنهم سينزلون؛ لأنهم لا يريدون أن يقضوا في حادثة سير.

« لا أثق في هذه المرأة» أعلن الصغير «أشعر بأنها ستقوم بحادثة!».

نزل وتبعه صاحباه، وساد جو ثقيل في الحافلة.

أعماها الغضب، تماسكت بصعوبة، وتحركت بالحافلة وهي ترمق المهرجين الثلاثة على الرصيف بحنق، رفعوا أيديهم نحوها، وقاموا بحركات غير لائقة، وانفجروا ضاحكين.

ضغطت على دواسة السرعة، واصطدمت الحافلة بعنف بالسيارة التي تسبقها، وصرخ الركاب.

لم تشعر بشيء، فكرت في ابنها، وتخيلت الشبان الثلاثة يقعون على الأرض من القهقهة