في
سياق الحديث «في العدد الماضي» عن علاقة الإنسان بنوعية معينة من الأطعمة والأشربة، وتوغل أكلات حجازية في المناطق النجدية، وأكلات نجدية في المناطق الحجازية توقفت بي الذاكرة عند القصة الطريفة التي تقول: إن أحدهم قال لصاحب المحل: «اعطيني عشرة نفر مطازيز، وضع كل مطزز في صحن!».
وفي جانب الحلويات التي أحبها –كما يظهر على وجهي المربرب من أكل الحلوى-، فإن الحلوى النجدية المتمثلة في «الكليجا والفتيت» وغيرهما، قد سجلت حضورا جيدا في المناطق الحجازية!
في المقابل لم تستطع الحلويات الحجازية -مثل «اللدو والدبيازة واللبنية»- أن تتوغل في المناطق النجدية؛ باستثناء الحلقوم الذي يحبه الصغار والكبار في تلك الأراضي!
أما أغرب المأكولات الحجازية فهي «اليغمش والمنتو»، فرغم تهافت أهل نجد على أكلها -عندما يذهبون إلى العتبات والأماكن المقدسة- إلا أن استيطان هذين الصنفين بقي معلقا رغم ترحيب الأخوة بهما، إنه تماما مثل التطبيع المصري مع إسرائيل، تطبيع بارد لا يتجاوز التمثيل الغذائي، وهو يعادل في ذلك الفقع «الكمأة»؛ الذي يتهافت عليه النجديون، حتى لو كان غالي الثمن، في المقابل يكاد يكون من نكرات الطعام في الحجاز!
أما الأكلة التي قوطعت من المطبخين النجدي والحجازي؛ رغم شهرتها الإعلامية، فهي الملوخية بالأرانب، فهذه الأكلة المصرية لم تنجح في تجاوز إجراءات جوازات الأكل السعودية، ولم يفلح كل الكفلاء بإدخالها لتعمل في السعودية، وفي نظري أن السبب يرجع إلى الموقف من الأرنب، فهو الحيوان الوحيد الذي تستعمره الدورة الشهرية، هذه الأسباب وغيرها جعلت هذا الطبق المصري يرفض، رغم أن الملوخية أكلة الملوك، والعرب يعتبرون أنفسهم ملوك الكون، ولا أدري لماذا هجروا الملوخية، أو بالأصح الملوكية نسبة إلى الملوك؟!
أما في جانب المشروبات فإن الحظ العاثر وقف في وجه السوبيا الحجازية، فلا تكاد -تقريبا- تجد من يسوّقها في بريدة، رغم أنها من مشروبات الكيف التي يحرص عليها القاصي والداني، وما قيل عن السوبيا يُقال عن السحلب!
في المقابل فإن النعناع -هذه الخضرة الحجازية- شقت طريقها إلى أباريق الشاي النجدية بسرعة البرق، ولا عجب فالجيد يفرض نفسه أحيانا!
أما المشروبات النجدية؛ مثل حليب الخلفات «النياق»، وشاي الزنجبيل وغيرهما، فقد فشلت في اختراق حواجز الحجاز الغذائية!
ولو تأملنا مشروبات الكيف؛ مثل الشيشة وغيرها، فإنها استولت على كل الأماكن، وأصبحت سيدة الحضور وسيدة الغياب، وهنا يجب أن نصحح معلومة تاريخية، حيث يزعم بعض النجديين أن الشيشة -هذه «المولودة الخبيثة»- جاءتهم من الحجاز، وهذا وهم تاريخي؛ لأن شاعر نجد القديم «حميدان الشويعر» قبل أكثر من ثلاثمائة سنة خلدها في شعره قائلا:
مد لي يد فيها الفنجال ويد فيها البربورة
والبربورة «النك نيم» للشيشة، ودخلت نجد عبر البوابة الهندية!
لا تتعجب سيدي القارئ –والقارئة– من هذه المعلومات، فأنا عالم -بل من هيئة كبار العلماء- في الأكل، وقد زعم بعضهم أنني ولدت في مطبخ، وفي فمي ملعقة من «تراب»!
هذا ما تيسر لي تذكره هذه الأيام، ومن يدري لعل الزمان يمنحني فرصة أخرى؛ لإلقاء نظرة تستشعر المكان عبر الصوان والخوان، وما يأكله عباد الرحمن؟