نحفظ ـ كعادتنا ـ الكثير من الأمثال والحِكم، والمرويات والتوصيات، التي تحث على إزالة العوائق من أمام طالبي «القرب» من الخاطبين، وتيسير «القسمة والنصيب»، وتهيئة الظروف الملائمة لتوفيق رأسين بالحلال.
مثل قولهم: «يا بخت من وفّق راسين بالحلال»، وأجمل من ذلك المثل القائل: «اخطب لبنتك، ولا تخطب لابنك»!
ورغم هذه المثاليات التي نسمعها كثيرا ولا نراها متجسدة على أرض الواقع، تبدو مسألة تزويج البنات حائرة بين الرغبة في الاقتران بذوي النفوذ والمال، وبين توصيات الدين، التي تجعل المكانة العليا له، مقدمة على الحسب والنسب، والجمال والمال!
وفي صحف هذه الأيام، نجد الشكاوى كثيرة من غلاء المهور، وفي المقابل نجد من يزوِّج ابنته بريال أو بريالين، أو حتى على طريقة: اخطب واحدة، واحصل على الثانية مجانا!
والمطالع لكتب التراث، يجد أن هذه المسألة -أعني اختيار «زوج البنت»- مسألة قديمة، فبعد الأحاديث الشريفة التي تحدد مواصفات «الزوج» تأتي كتب التراث، ولعل من أبرزها ما ذكره صاحب الأغاني عن ابنتي شاعرنا «أبي العتاهية»، حيث يروي «أبو الفرج» في أغانيه قائلا: أخبرني «حبيب بن نصر» قال: حدثنا «عمر بن شبة» قال: كانت لـ«أبي العتاهية» بنتان اسم إحداهن «لله»، والأخرى «بالله»، فخطب «منصور بن المهدي» البنت «لله»، فلم يزوِّجه، وقال: إنما طلبها لأنها بنت «أبي العتاهية»!
وكأني به وقد ملّها، فلم يكن لي إلى الانتصاف منه سبيل، وما كنت لأزوِّجها لبائع خزف، أو جزار، ولكني أختاره لها «موسرا»!
ثم يعلق شيخنا أحمد الغزاوي في كتابه «الشذرات» على هذا النص بقوله: «ما أشبه الليلة بالبارحة»، فصاحبنا الزاهد لم يشترط علما ولا فقها، ولا ورعا ولا تدينا، ولكنما يختار زوج ابنته «لله» موسرا! وقد سماها بما يجعلها من القانتات الصالحات، وإن كان من واجبه أن يختار لها من يستطيع الإنفاق عليها، كمثيلاتها من بنات عصرها وجيلها، إلا أن تكون العلة مزمنة منذ أكثر من ألف عام!
إن النص السابق يعطي مؤشرات كثيرة، منها أن أصحاب النفوذ كانوا يتقربون من الشعراء، بعكس ما يحدث في عصرنا الحاضر، حيث «يتسلتح» مئات الشعراء على «نصف متنفذ»!
كما أن النص يشير إلى قدم اختيار الأسماء الغريبة، التي يقصد بها «المزايدة» على الدين، فمن من المعاصرين يسمي ابنته «لله» أو «بالله»؟! ولم يفت على شيخنا أحمد الغزاوي أن يبدي رأيه حول هذه الأسماء، إذ يقول في «الشذرات»: ذكرتني هذه التسمية بما قرأته في «بومباي» بالهند عام 1343هـ -أي قبل نحو 45 عاما- في اللافتات التي ترفع على بعض الفنادق، مثل «هوتيل سبحان الله»، أو «فندق إن شاء الله»! حسنا، ماذا بقي؟! بقي القول: إن الرجل الكفء مقدم على المهر الجزيل، ولا يعرف ذلك إلا والد البنت الذي يقضم أظافره قلقا و«يلعب الفأر في عبه» إن سمع أن أحدهم ينوي خطبة ابنته، متخبطا يمنة ويسرة؛ للبحث عن أي شائبة لا تجعله يعض أصابع الندم لاحقا، وإن تأكد أن الخاطب ذو جاه ومال، فما أجمل الكفاءة والثراء إن اجتمعا في رجل واحد! أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وللغزاوي ولأبي العتاهية، وللقارئ والقارئة، ومن نوى أن يقرأ، ولم تسمح له الظروف