الخط الكوفي، الخط الأندلسي، الخط الريحاني، الخط الفارسي، خط الرقعة، الخط النسخ... حتى الفراخ لها خط، يظهر في التراب من نبش أرجلها في صفحته... ولك أن تتخيلي، أو ربما رأيت بنفسك -إن كنت تربين الدواجن- مقدار ما في هذا الخط من رشاقة وجمال خاصة إذا عرفت أننا في مصر نسمي الخط القبيح «نبش فراخ» أو«نكش فراخ» في مقولة أخرى.
أنا خطي وسط –وقد يؤيدني صديقي جامع هذا الكلام وما سبقه من كلام لك يا سيدتي- لا هو نبش فراخ ولا هو آية من آيات الفن. وهو فن برع فيه العرب والمسلمون، وأعتقد أنه لا يجاريهم فيه أحد.
وبعض الكتّاب يودون أن ينتسب إليهم نوع من الخط، وأستخدم كلمة خط هنا مجازًا لأعني كتابة، أي أن بعض الكاتبين، وأنا من هذا البعض، يحبون أن يخترعوا لأنفسهم أسلوبًا أو أساليب تخصهم وتدل عليهم. ولست أدعي أني وصلت لهذا الهدف، لهذا تجدينني يا عزيزتي –إن كنت تتابعين ما أكتب- أرهق نفسي وأرهقك معي في التنقل والتحول من شكل إلى شكل، ومن كتابة إلى كتابة؛ بحثًا عن ذلك «الخط» البهاء-جاهيني الذي يطمح أن يقف إلى جوار فنون «الخط» الأخرى، أي كتابات الراسخين من المبدعين الذين أنشأوا لأنفسهم مدرسة ولغة يعرفهم بها الناس بدون مجهود.
أعلم أنه طموح شاهق، وأن كبار المبدعين فقط هم الذين أسسوا ممالك من الإبداع تنهض بصياغاتهم يعرفها حين يلمحها القادم من بعيد. فمن قرأ شكسبير بلغته يعرف حين يسمع سطرين من أية مسرحية –حتى إن كان لم يقرأها- أن هذا شكسبير. كذلك إن قرأت صفحتين من رواية منزوعة الغلاف لنجيب محفوظ، أو مسرحية منزوعة الغلاف لتوفيق الحكيم أو مجموعة قصصية منزوعة الغلاف ليوسف إدريس أو ديوان شعر منزوع الغلاف لمحمود درويش فستميزين شخصية الكاتب الطاغية إن كنت قد قرأت له أي شيء من قبل، ولكن لم تقرئي هذا الكتاب. أعلم أن رغبتي في أن أقف يومًا بين هؤلاء فيها ما قد يعتبره البعض تطاولاً على القمم، أو تطاوسًا وإفراطًا في الإحساس بقيمة الذات. لكني أظن أنه طموح ومشروع وإن كان مرهقًا، ومن حق أي كاتب أو فنان، بل من واجبه، أن يسعى إليه. «وأن ليس للإنسان إلا ما سعى» كما قال أحكم الحاكمين، فكل مبدع عليه أن يسعى لبلوغ هذا المثل الأعلى، وإن كان ليس كل مبدع يضمن الوصول، أو الوصول بنفس الدرجة.
كل هذا طبيعي. يقول المصريون –أيضًا- «صوابعك مش زي بعضها». ويقول عمر بن عبد العزيز «رحم الله امرأ عرف قدر نفسه». وأنا أعلم أني جاوزت الخامسة والخمسين ولم أصل بعد... ولكني سأستمر في المسير، تتردد في ضميري كل الأنغام التي سمعتها، كل اللوحات التي شاهدتها، كل المباني التي وقفت متحيرًا في جمالها، كل الأشعار التي هزتني، كل الحواديت التي شكلتني، كل الأسرار التي أذهلتني. أمشي فاقدًا الأمل تقريبًا في أن أصل، لكني حين أكاد أيأس تتفجر في قلبي نبوع الإلهام. وسرعان ما تتسرب بين أصابعي