بعدما جاءه كتاب من والي البصرة، يذكر فيه شهر شعبان دون أن يميِّز أي شعبان! أفي هذا العام أم الذي قبله أم المقبل؟
اكتشف أمير المؤمنين عمر بن الخطاب حاجة الأمَّة لتاريخ يعتمدون عليه بتدوين أعمالهم وإنجازاتهم، فأمر باجتماع لأهم مستشاريه من أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وعرض عليهم ضرورة أن يكون للناس تاريخ يميزون الأعوام والأيام به، فأشار إليه بعض مستشاريه بأن يعتمد على تاريخ الروم في التأريخ، وأشار آخر لتاريخ الفرس، لكن الرأيين لم يلقيا استحساناً، ليقول قائل اجعلوا مولد الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام هو تاريخٌ لنا، واقترح آخر، بل بعثته عليه السلام، ليأتي رأي ثالث بوفاته، وتعدَّدت الآراء حتى تقدَّم علي رضي الله عنه برأيه بأن تكون هجرة المسلمين هي بداية تاريخهم، فأعجب أمير المؤمنين بهذا الرأي الحكيم وتمَّ عليه، وكان ذلك في عام ٦٣٨م، أي ١٦هـ.
لكن لماذا الهجرة؟
بعد الهجرة انطلقت الرسالة السماويَّة نحو الخلود وكانت إتماماً لحضارات إنسانيَّة منذ بداية الخليقة وحتى نهاية العالم، كان الاختيار هنا تركيزاً على المعنى العميق للهجرة التي كانت بدايتها دعماً وتعاضداً من المُصَدِّقين الصادقين لصاحب الرسالة، وفراراً بالدِّين الغريب عن الأهل والديار، تلى ذلك يقين بالحق غمرهم بالسكينة والطمأنينة من إله العالمين بـ {لا تحزن إن الله معنا}، وقوة إيمان أرست هذا الدين إلى برِّ الأمان، وبعد ١٠٠ عام فقط تمتد أنواره من الصين شرقاً حتى إسبانيا غرباً، فالهجرة كانت نقطة التحول الحقيقيَّة لولادة الحضارة الإسلاميَّة.
وفي هذا يفيدنا الدكتور عدنان إبراهيم: لم يؤرخوا من ميلاده عليه السلام لأنَّه مستمد من بعثته فلولا بعثته الشريفة ما كان لميلاده أي معنى، ولم يؤرخوا بالبعثة لأنَّها بذاتها لم تكن منتصرة، فالرسول بدأ وحيداً مستوحشاً، وشفعه بعض من صدّقه، وضلّوا قلة حتى هاجروا إلى المدينة المنورة، لذلك لم تكن البعثة الخيار المناسب حتى يؤرَّخ بها، أما وفاته فهي أبعد المعاني ليؤرخ بها لأنَّها تذِّكر بالإنقضاء وتجدد الحزن على هذه الأمة، لكن الهجرة كانت هي الرأي السديد لأنَّها كانت باب الفرج لهذا الدين، وكانت سبيل النصر والتمكين، ولم تكن قدر فرد فقط، بل سعي جماعة هم الآوائل الصادقون، فإن بحثت عن الصدق المتجسِّد في بشر ستراه في المهاجرين، فلم تكن هجرتهم لبلد أجمل أو أريح ولا لغرض من الدنيا ليكثروا ما بين يديهم من أملاك ومتاع ورزق، بل إنَّهم تركوا ذلك، تركوا المال والبيت والولد والبلد وهاجروا إلى الله ورسوله، إنَّها هجرة روح وقلب، وليست مجرد خُطى أقدام، إنَّها جهاد نفس ضد ضعف البشريَّة ومغريات الحياة لغايات روحيَّة خالصة بغض النظر عن الموقع والمكان، لقد عقدوا الصفقة الأربح مع الله تعالى ليس في حقهم وحدهم، بل في حق الأمة والتاريخ والبشريَّة، فلولا الهجرة بعد الله ما كان الإسلام.
حكمة قرار الماضي درس للحاضر
القرار هنا لاختيار التاريخ، كان ذا نظرة بعيدة وثاقبة جعلت التوثيق مرتبطاً بمعنى نجاح الأمة وليس بأفرادها، فاتحاً بذلك الأمل بتكرار هذا النجاح، بالتذكير بدروسه العميقة التي كانت أساساً لترسيخ وتقوية هذا الدين، بعكس ما يشهده الحاضر من تعظيم وتبجيل لرموز بشريَّة أو زعماء متناسيين بذلك المعنى الحقيقي وراء إنجازهم وتميزهم البشري، مغلقين الأبواب أمام تميُّز جديد ممتد لسابقه أو متفوق عليه، فدائماً نقف على أطلال الماضي رافضين التقدُّم للأمام وفتح الفرص الجديدة لرموز وتميُّز جديد.