قد تندهش وأنت تصادف في جوف الليل بين أحياء مدينة فاس العتيقة، سيدة في عقدها السادس تطعم مئات القطط المشردة ، لا تخلف موعدها كل ليلة مع السيدة ياقوت لتنعم بحنانها وعطفها.
فالمرأة ورغم ظروفها الاجتماعية القاسية التي تعيشها في غرفتين مظلمتين بحي (واندو)، أمضت حتى الآن أكثر من عشرين عاماً في رعاية هذه القطط، التي كانت سبباً في انفصالها عن زوجها، لترهن حياتها بعد ذلك في رعاية وإطعام وتطبيب وتوليد مئات القطط.
حب جارف
فما هو سر اهتمامها بتربية القطط؟
تجيب ياقوت:
"ليس هناك سر يذكر، أحببت القطط ولاعبتها وأنا صغيرة جداً، لا يتعدى عمري سبع سنوات، وبخلاف بعض صديقات الطفولة اللواتي كٌن يلعبن بعرائس القصب، فإنني ولعت بحب القطط ورعايتها كلما صادفتها في بيتنا أو بيوت الجيران أو الأهل، أعطف عليها، أمدها بالأكل وأنظفها، وأضم الصغيرات منها إلى صدري.
ومع توالي السنوات ازداد تعلقي بها وكبر ولم أكن أدري بأن حبي للقطط سيكون سببا في انفصالي عن زوجي، الذي كان يتضايق من هذا الحنان ويصفه بـ (المبالغ فيه)، حاولت أن أقنعه بأن اهتمامي بتربية القطط ورعايتها هو غريزة في نفسي، لا يمكن أن أحيد عنها بسهولة خصوصاً وأنني وهبت لها حياتي مبكراً، عندما كنت أجوع نفسي لأوفر لها الأكل والأمان وأنا طفلة، ولكن زوجي لم يقبل الأمر، وخيرني بينه وبين القطط، وهو ما فتح الباب لمشاكل يومية بسبب وجود القطط في البيت، فاستحال بيننا التعايش فوقع الانفصال .
المهم اخترت العيش من أجل مبدأ أومن به وهو حماية القطط ورعاية حقها في الحياة لمدة تزيد الآن على أربعة عقود.
1600 قط
المدهش في حياة (أم القطط) أنها ملزمة في كل ليلة توفير الطعام لأكثر من (1600) قط الموزعة في فضاءات معلومة ومعروفة في أحياء فاس، فكيف تتدبر ياقوت وتؤمن إطعامها يومياً؟
تجيب ياقوت التي كنا برفقتها تلك الليلة:
"أنا أعمل وفق (أجندة) يومية مضبوطة، فرحلتي تبدأ يومياً في السادسة مساءً بجولة ماراتونية على أرباب مطاعم وجزارين وتجار السمك ودجاج وحليب الذين يدعمون هذه المبادرة الإنسانية بتلقائية. وبعد انتهائي من جمع المؤونة أعود إلى غرفتي لأستريح وأطمئن أولاً على القطط الأليفة الموجودة في بيتي وأطعمها، بعد ذلك أستعد لأكبر عملية إطعام وأنا أحمل ما جادت به أريحية المحسنين.
حيث جعلت من الساحات المتواجدة في أحياء فاس العتيقة مطاعم في الهواء الطلق لمئات القطط التي تعرفني جيداً وتحترم موعد لقائنا كل ليلة، إذ بمجرد ما أصل إلى ساحة معينة أجد في استقبالي عشرات القطط التي تتحلق من حولي بانتظام لتتناول طعامها بهدوء، وتموء وكأنها تريد بذلك أن تشكرني وتحتفي بي بعدما نذرت لها حياتي. وقررت في السنوات الأخيرة تأسيس (جمعية تعنى بالقطط المشردة).
وعندما تزورني اليوم كاميرات القنوات الفضائية العربية والغربية فإنني أوجه أضواءها إلى تلك القطط التي تحتاج لالتفاتة من جمعيات المجتمع المدني والمسؤولين لدعم هذا العمل الإنساني بالطريقة التي يرتضونها.. فأنا في غنى عن هذه الأضواء وأقوم بعملي لوجه الله.
بريجيت باردو
الملاحظ ونحن في جولتنا مع ياقوت وهي تدلف بنا من ساحة إلى أخرى أنها طبيبة قططها، فمن أين لك بهذه الخبرة؟
ترد ياقوت :
"أنا أم وطبيبة ومعالجة تلقيت تكويناً في ميدان رعاية وعلاج القطط المريضة التي أُسعفها بنفسي، ولدي خبرة في اكتشاف الأمراض وتتبع حياتها اليومية وعلاجها، وأم أيضا لأنني أرضع صغار القطط كما ترى وأحتضنها وأسائلها عن أحوالها بكل حميمية، أفرح للولادات الجديدة، وأحزن للوفيات، وأفهم شكاويهم".
تختم: "ما أطالب به، هو توفير الدعم اللازم لجمعيتنا، التي حظيت بالتفاتة من الفنانة الفرنسية بريجيت باردو حيث منحت لرئيسة الجمعية كمية مهمة من الأدوية. فأنا امرأة أعيش من أجل إنقاذ حياة القطط المشردة".
شهرة إعلامية
يقول عنها الفنان الملتزم صلاح الطويل الذي تعتبره ياقوت أقرب الناس إليها:
"هذه المرأة تكرس حياتها للعناية بالقطط المشردة، ما جعلها تحظى بقدر مهم من الشهرة إعلامياً، وتعد اليوم أشهر مربية قطط في المغرب، والجميع في فاس يقدرون تضحيتها لإسعاد القطط الأليفة والمشردة ولو على حساب راحتها.
رأي الدين
يرى إدريس البخاري (خريج دار الحديث الحسنية والحاصل على دبلوم الدراسات الإسلامية العليا) أنه يجوز تربية القطط وإطعامها، ويوضح قائلاً: لم أصادف نصاً يحرم ذلك، لكن هذا الإطعام والشرب يجب ألا يكون مبالغا فيه. لأن إطعام ورعاية القطط شيء محمود، والإنفاق عليها ينبغي أن يكون في حدود المعقول.
وما يجب تجنبه هو الإنفاق المبالغ فيه على القطط، وألا يكون على حساب حاجيات الأسرة، أما بالنسبة لحالة المربية ياقوت فالواضح أن قططها تقتات من فضلات ونفايات المطاعم فلا حرج في ذلك بشرط ألا تسبب هذه القطط ضرراً لأحد..
حرمان عاطفي
يرى فيصل زروال، الباحث في علم النفس الاجتماعي، أن معاناة الإنسان الاجتماعية والنفسية، تجعله يفكر في بديل لهذه المعاناة ينسيه مشاكله ويكون مخرجاً له من دائرة الفراغ، التي يعيشها من توتر وأعصاب.
لذا يخلق من حوله عالماً يتفاعل معه ويشعر فيه بكينونته وفي تقديري أن ياقوت واحدة من هذا النموذج، التي قد يكون لانفصالها عن زوجها الذي لم تكن لديها رغبة في تفهمها، أضف إلى ذلك حرمانها العاطفي في فترة زواجها وعدم إحساسها بالاهتمام من طرف الزوج وتقديره لعملها الإنساني، دفعها بأن تجعل من عالمها المتكون من القطط عالماً يجسد نظرتها للوجود والحياة.