يأتي رمضان ليحمل لي الذكريات الجميلة، حيث أتذكر على مائدة الإفطار جدتي لأمي، التي كانت تعيش في بيت صغير في منطقة بعيدة عن بيتنا، ولكني كنت أصر على زيارتها رغم وعورة الطريق، فمنذ ما يقرب من الثلاثين عاماً، كانت السيارات قليلة والطرق وعرة في مدينتي، ولذا كانت هذه الزيارات رغم شقائها، هي رحلات روحانية ممتعة بالنسبة لي.
بيت جدتي كان فقيراً، ولكنه كان مستوراً بمهارة جدتي وحنكتها، يشبه تلك البيوت التي تطل علينا في الحارة الشامية في التلفاز. كانت الحياة بسيطة وهادئة، وجدتي تقضي نهارها الرمضاني، وهي تعد عصير ومنقوع العرقسوس، تأتي ببعض العرقسوس وتضيف له بعض الماء وكربونات الصودا، وتتركه فترة، ثم تطلب مني أن أحضر الإبريق البلاستيكي، وقطعة صغيرة من قماش «الشاش» البنية، وقد كان لونها في السابق أبيض، تطلب مني أن أتناولها من على حبل الغسيل، وأتأكد من جفافها، ثم تأخذها وتضع بها بشيء من التأني والكثير من البسملة منقوع العرقسوس، وتعقدها جيداً، ثم تضعها في الإبريق الذي تملأه بالماء، وتربط طرفها بيد الإبريق الخارجية؛ حتى لا تسقط بداخله، وتغطيها بطبق صغير، ثم تظل طول النهار على روحة وجيئة، تكشف الإبريق وتحرك المنقوع برجه قليلاً، وتعصر قطعة الشاش بيدها ثم تغطيه ثانية.
كنت أعتقد أن حياة جدتي وصيامها قد ارتبطا بهذا الشراب، وأسمعها تقول لجارتها: «والله ما في شيء يرد لي روحي على الإفطار زي السوس».
تقولها اختصاراً، وبالفعل ما أن ينطلق الأذان حتى تمسك جدتي بـ«إبريق السوس» وتجرع منه جرعات متلاحقة، ولكن ذات مساء تحولت جدتي إلى جثة ممددة بلا حراك، وإلى جوارها «الإبريق» فارغاً. جدتي لم تكن تعلم أن سر موتها لا حياتها كان في «إبريق العرقسوس»، ولكننا يجب أن نعلم رغم أن الأعمار بيد الله، وقد حملت ذكرياتي للدكتور مازن السقا، أستاذ العقاقير الطبية، حيث قال: «يمنع شراب العرقسوس لأصحاب الأمراض التالية: - ضغط الدم المرتفع الذي كانت تعاني منه جدتي. - المرأة الحامل. - متناولي الأدوية الهرمونية وموانع الحمل «الحبوب». - مرضى الكلى. - مرضى الصرع. - ولكنه مفيد جداً وصحي لمرضى قرحة المعدة والإثنى عشر.
اقرئي المزيد من المواضيع في رمضانيات