لطالما كان الجمهور في حالة بحثٍ دائمٍ عن أسباب ابتعاد فنانين كبارٍ، مثل راشد الماجد، وعبدالمجيد عبدالله، ورابح صقر، عن الظهور الإعلامي، والبرامج الحوارية، والحوارات الصحفية، لكنَّ هذا الجمهور نفسه لم يعد مؤخراً يسأل عن أسباب غياب هؤلاء الفنانين، بل أصبح يحثهم على الاستمرار في الابتعاد عن الإعلام بسبب ما يحدث لغيرهم من النجوم الكبار بعد تلك اللقاءات، على رأسهم الفنان الكبير محمد عبده، إذ يتم اجتزاء تلك الحوارات، وتعديلها، ثم نشرها في تطبيقات ومواقع التواصل الاجتماعي لتنتشر سريعاً بشكل يسيء إلى الفنان أكثر مما يُقدّم له، هذا على الرغم من أن المحتوى الحقيقي قد يكون مختلفاً تماماً.
السؤال الذي لم يُجب عنه أحد أولئك النجوم حول أسباب ابتعادهم عن الإعلام بقي عالقاً سنواتٍ طويلةً، حيث إن عدداً منهم لم يظهر في حوارات صحفية، أو تلفزيونية منذ أكثر من خمسة عشر عاماً، وعلى الرغم من ذلك، ما زالوا يتربَّعون على عرش الأغنية، ويتقدمون الصفوف الأولى، وما زالت حفلاتُهم وألبوماتُهم الأهم، وما زالوا الأعلى أجراً والأكثر وجوداً في الساحة، بينما ومن جهة أخرى، يغيب عن تلك الحفلات، وعن مبيعات سوق الألبوم النجومُ الأكثر وجوداً في البرامج التلفزيونية والاجتماعية، حتى مَن لديهم أعلى أرقام المتابعات على تلك التطبيقات والمواقع!
يدَّعي معظم المقرَّبين من أولئك النجوم المتغيِّبين عن الظهور الإعلامي، أنهم يفعلون ذلك لأنهم ليسوا في حاجة إليه، بينما وعن تجربةٍ، استطعتُ خلال خمس سنواتٍ، قدَّمت فيها برنامج «فني جداً» على الإذاعة الرسمية السعودية من جدة، بين عامَي 2013 و2018، أن أستضيف عدداً كبيراً منهم ودون معرفةٍ مسبقةٍ، فقط لأنني حرصت على أن أقدِّم لهم محتوى جيداً يقنعهم، فطرحت محاور مهمة، وفتحت لهم أبواب النقاش كما يستحقون، واستطعت أن أفوز بحوارات مع فنانين نادري الظهور إعلامياً، وأن أحصل على انطباعٍ جيدٍ جداً منهم، وهو ما شهد عليه الجمهور شخصياً عندما كانوا يشكرونني بامتنان في نهاية تلك الحوارات، ففزت بحسين الجسمي، وعبدالكريم عبدالقادر، وعبدالرب إدريس، وعلي عبدالكريم وسميرة أحمد، والعشرات غيرهم، كما فزت عربياً بحوارات لم تحظَ إذاعاتٌ محلية، في مصر مثلاً، بفرصة استضافتهم، مثل النجم يحيى الفخراني، وصلاح السعدني، ولبنى عبدالعزيز، وعمر خيرت، ونصير شمة، وجمال سليمان، ونور الشريف، رحمه الله، والكثير من النجوم طوال تلك السنوات، وبشكل أسبوعي.
هذه التجربة أكدت لي أن ما جعل بعض النجوم يتَّخذون قرار الابتعاد ليس عدم حاجتهم إلى الإعلام، بل عدم ثقتهم به، عدم ثقتهم بتلك البرامج والصحف التي تدور حول حياتهم الخاصة وخلافاتهم، وما بقي عالقاً عنهم في ذاكرة الجمهور، أو الصحافة من شائعاتٍ طوال مسيرتهم الفنية، واكتشفت أن الكثير منهم لم يعد يحترم الإعلام لهبوط قيمة ما يُقدم فيه، فالفنان في حالة بحثٍ دائمٍ عن السؤال الفني الجيد، لكنه لم يعثر على الصحفي، أو المذيع الذي يملك ذاك السؤال، بل على العكس، مَن يصطدم بهم كلهم، يبحثون عن إجابات أخرى تخص أموراً لها علاقة بكل شيء إلا بما قدموه من فنٍّ طوال مسيرتهم التي قد تصل إلى أربعين عاماً أحياناً!
الصحفيون والمعدُّون الفضوليون السبب وراء ابتعاد النجوم الكبار عن الإعلام، هم مَن أفقدوهم الثقة به، لذا لا يجب أن نتساءل عن أسباب ابتعادهم عنه، بل أن نتساءل إلى أين ذهب صنَّاعُ الإعلام الجادون؟ وأين يمكن أن نجد صحفياً، أو مذيعاً يهتم بالتجربة أكثر من اهتمامه بتصيُّد الأسرار؟! .