أحمد العلي، شاعر ومترجم، نشأ في بيئة ثقافية؛ فتأصلّت لدية ملكة الكتابة، ووجد فيها الملاذ الآمن، ومن فرط تعلقه بمفردات اللغة، انتقل إلى عالم آخر؛ حوى بين دفتيه تعمقًا في أساليب اللغة ومعانيها المتشعبة، فبرع فيه أيضًا!
يرى أنّ الترجمة بابٌ يؤدي لاستكشاف آفاق شعرية حديثة، كما يعتقد أنّها تجعل من الكتب عنصرًا ساحرًا ولافتًا، فكان هذا الحوار معه.
1. بداية، هل يولد المرء شاعرًا بموهبة فطرية، أمّ أنّ حُب الشعر أمر مكتسب؟
- لا أؤمن بالمفهوم الشائع القائل إن الموهبة هديّة تُعطى للمرء من دون تأثّر باهتمامات عصره، أعتقد أن هناك استعدادًا للإبداع بشكل مطلق في الفرد، واستعدادًا تكتشفه وتنمّيه الحاضنة الأولى في الطفولة وتتأثر بالنماذج المحيطة، لم يكن حولي أيّ نماذج بشريّة تمثّل أيًا من الفنون؛ لكي تعلق تفاصيلها في ذاكرتي اللاواعية، الكتب هي ما وجدته في بيت جدّي، وفي أدراج غرفة نوم أمّي، هذا الانعقاد الداخليّ للدهشة الأولى تجاه الكون، أتاني من الكتب، ولذلك عندما توالت بعض الأحداث المرعبة في حياتي، لم أجد ما يُعيد إليّ توازني الداخلي غير الكتب والكتابة حتى أصبحت نمط حياة.
2. قصيدة شعرية بقيت في ذاكرتك؟
- نصّ لأدونيس:
لم يَبْقَ للشِّعر من أَنْقاضِ قافلتي
إلى المجاهيل، غيرُ اللّهوِ واللّعِبِ،
واليومَ أُكْمِلُ ما أَبْدأْتُ: بيتُ هوَى
هَوَى، تَمدَّدَ في أرجائهِ حلمٌ
مَيْتٌ، أُشاهِدُ في الكرسيِّ صورتَهُ
في البابِ، في قفْلهِ، في مَقعدي وعلى
سريرِ حبّي، وفي الجدرانِ، والكتبِ،
وقلتُ هذا لحبّي في توحُّدهِ
لم يُصْغِ، أَلْقى على جِسمي عباءتَهُ
وَراحَ يَفتَح أيّامي على زمنٍ
طِفْلٍ، ويَضحكُ مِن يَأسي ومن تَعَبي.
أبعد من تلك الدوائر
3. ارتبط اسمك بجمع الإرث الأدبي للشاعر السعودي «محمد العلي»، هل يُعد أكثر المؤثرين في أسلوب وعناصر قصيدتك؟
- بل أقلّهم جميعًا، جمعي لإرثه جاء بُغية إدخاله إلى المكتبة، هناك آخرون كُثُر مثل محمد العلي في حياة الثقافة السعودية، وهبوا أعمارهم للجرائد والنّشر، لكن لا تعرفهم الأجيال الشابّة؛ لأنهم لم يدخلوا في الكتب، بل في ذاكرة الأصدقاء المؤقّتة المتداعية وأرشيف الصّحف المهمَلة.
اطّلعت على أدبيّات مراحل مثقفي المملكة منذ الستينيّات، هضمتها وتجاوزتها عندما بلغتُ الـ26، الآن أنا في رأس الثلاثين الثقيلة، وعيناي تنظران إلى أبعد من تلك الدوائر.
4. يظهر من بعض إصداراتك مثل «لافندر أوتيل كاليفورنيا، يجلس عاريًا أمام سكايب» تأثرك بالأدب الأمريكي، ماذا أضافت التجربة الأمريكية لذائقة العلي الأدبية؟ وهل شكّلت منه فردًا آخر؟
- لم أتأثّر بالأدب الأمريكي من قريب أو بعيد، نصوص «سكايب» كتبتها حين كنت أعمل في منطقة ساحليّة نائية قبل رحلتي إلى نيويورك للدراسة، ولم يتوافر من وسائل الاتصال في ذلك المكان سوى الشبكة العنكبوتية، وإن بدا أنّ هناك تأثّرًا بالأدب الأمريكي؛ فذلك لأن العالم الذي نعيش فيه أمريكيّ، عصرنا أمريكي من كل النواحي، مرّ على العالم عصْر يُمكن أن يُقال عنه إنّه العصْر الألماني، تأثّر حينها الكُتّاب العرب والعالميّين بالآداب الألمانيّة، ثم جاء العصر الروسيّ، ثمّ الفرنسيّ، والآن الأمريكي، وعلى الكاتب أن يعيش وفقًا لعصره؛ نقدًا له وكشفًا لمعالمه.
في نيويورك حدثت ولادتي الثقافية الحقيقيّة، انكشف العالم أمامي، الحياة أكثر تنوّعًا واتّساعًا ممّا يُدركه المرء في موطنه.
الساحة الشعرية السعودية
5. برأيك ما الذي ينقص الساحة الشعرية السعودية؟
- لا ينقصها شيء، بل هي مُثقلة بالتقليديّين الذين يبرزون في كُلّ محفَل، والمؤسسات الثقافية الرّاكدة على فهم قديم لأشكال الإبداع، لذا لا مناص من رحيل عُتاة التجديد في النصّ الأدبي.
6. ما الذي قادك إلى حقل الترجمة؟ وما هو الرابط بين الشعر والترجمة؟
- من بين أوّل الكتب التي ابتعتها في نيويورك هو «اختراع العزلة» لبول أوستر، عندما تقدّمت في قراءته، وجدتني أتخيّل ما يقوله بالعربيّة، وبذلك دخلت هذا العالم. الترجمة تتطلّب إلمامًا باللغة العربية وأشكالها وصياغاتها ومعجمها الهائل، فالتمرُّس على تطويعها وتشكيلها في الترجمة يساعد الشّاعر ويوسّع من إدراكه للّغة وطاقاتها وتشعّبها ودقائقها، وقد يتمكّن في شِعره من الوصول إلى أسلوب لم يكن ليصل إليه لولا ذاك القُرب المُتعِب من اللغة حدّ الإنهاك، جبران والسيّاب وأدونيس وسعدي يوسف وغيرهم، شعراء جدّدوا في الشّعر العربي، وأخذوه إلى مناطق غير مسبوقة واشتغلوا في الترجمة أيضًا، بعكس محمود درويش وشوقي بزيع؛ ظلّا على نصوص التفعيلة «على جمالها» دون الذهاب عميقًا إلى جذور النص، وهما لم يشتغلا في الترجمة.
الكتب المترجمة
7. برأيك، ما سبب إقبال الشباب بشكل أكبر على فئة الكتب المترجمة؟
- الإقبال ليس جديدًا، لطالما كانت الكتب التأسيسيّة للحركات الأدبيّة والفكرية هي كتب مترجمة، وقد تكون عوالمها البعيدة عُنصرًا جاذبًا، أو حُريّة كُتّابها في الحديث عمّا يريدون، أو فكرة أن الكتاب لم يكُن ليُترجَم إلّا لقيمة فريدة يحملها.
ذكرت منظمة اليونيسكو أن العالم يُنتج 2.2 مليون كتاب سنويًّا، ولا نُترجم منها إلا عددًا قليلًا، فتغدو الكتب المترجمة مُصَفّاة وُمختارة بعناية.
8. كُتّاب وروائيون تتمنّى ترجمة إحدى رواياتهم؟
- التمنّي ليس سوى اسم آخر للعمل، حاليًا أعمل على ترجمة كتاب للكاتب الأيرلندي «جون بانفيل»، وكلّفتُ مترجمين آخرين بترجمة بعض كتبه الأخرى؛ ليقيني بجمالها، وأهميّة اطّلاع القارئ والكاتب العربي على تجربته الفريدة.
9. جائزة أو محفل أدبي عالمي، تتمنى أنّ يكون له نظير مشابه في العالم العربي أو في المملكة العربية السعودية تحديدًا؟
- الجوائز العالمية تسعى إلى الحفاظ على مستوى معيّن من الأدب الجادّ، الذي يشكّل إضافة وتجديدًا في حقله، فتكرّمه وترفعه عاليًا وتُشْهِره، في حين أن الجوائز العربية معظمها تعمل عكس ذلك تمامًا، فتحافظ على معايير القديم البالي، ولا تهتمّ بالسّاعين لتحقيق شيء مختلف، ومن باب التفاؤل؛ أقترح تأسيس هيئة كتاب مستقلّة في السعوديّة تُديرها مجموعة من الوجوه التي أثْرَت المشهد الثقافي السعودي طوال سنوات وتعرفه جيّدًا.
جيل الألفية
10. ترى أنّ الكتُّاب والشعراء ينبغي أنّ يكونوا أحرارًا من دون أي جهات تنظيمية، ولكن ماذا عن جيل الألفية الذي ظهر من خلاله كُتّاب لا يُقدمون محتوى حقيقيًا يُضيف للأدب نكهة قيّمة؟
- الأدب هو إنجاز فرديّ بامتياز، يعتمد تراكم التجربة الحياتيّة والكتابيّة، دَور الجهات التنظيمية يأتي قبل ذلك أو بعده، وهو دور إداري لا علاقة له بشيء آخر. المحتوى الحقيقي قليل في كلّ عصْر، نحن لا نعرف المحتوى الضعيف من العصور السالفة؛ لأنّه لم ينجُ في امتحان الزّمن، وهذا ما سيحدث في عصرنا والعصور التي تليه.
12. ذكرت في أحد الحوارات بأنّك «شخص ملول»، فماذا بعد الترجمة؟
- أعمل الآن مُحرّرًا في إحدى دور النشر في دولة الإمارات؛ أختار ما ننشره من الكتب العربية والمترجمة.. الأمر هو أنني كلّما لعبتُ دورًا جديدًا؛ أقول لنفسي إن هذا الدّور ما هو إلا تمرين على الكتابة، وإنني سأعود إليها قريبًا، وأتمنى ألا يكون ذلك وهمًا!
■ بطاقة
- أحمد العلي، ولد في مدينة الظهران 1986م.
- يمتلك مدونة إلكترونية شهيرة تحت اسم «نهر الإسبرسو».
- له العديد من الإصدارات الأدبية، أبرزها «يجلس عاريًا أمام سكايب» و«كما يغني بوب مارلي»، وديوان «لافندر أوتيل كاليفورنيا».
- ترجم العديد من الكتب والروايات العالمية؛ مثل: «حليب أسود»، «اختراع العزلة»، «عمّ نتحدث حين نتحدث عن الحب»، «أصوات الطبول البعيدة».