في حياة كل منا نقطة تحول غيرت مسار الدرب الذي يسلكه، فمن كان ليصدق بأن المصمم ربيع كيروز الذي احتفل بمرور عشرين عاماً على انطلاقه من بيروت، واتخذ من قصر في منطقة الجميزة مشغلاً، سيعود إلى باريس ليفتتح مشغلاً آخر بعد انفجار مرفأ بيروت الذي قضى على تعب سنوات.
تلك المغامرة التي بدأها ربيع في تسعينات القرن الماضي لم تنتهِ، فالمشغل انتقل إلى منزل مجاور في غضون يومين، فيما يخضع القصر للترميم، والحياة عادت إلى طبيعتها بظاهرها، ويمضي المصمم ربيع كيروز مرمّماً حياته متنقلاً بين باريس وبيروت، عملاً بمقولة الفيلسوف فيودور دوستويفسكي: "امشِ على قدم واحدة، ولا تترك أثر يدك على كتف أحد." ربيع الذي لم يكن يمتلك رفاهية الحزن، لأنه معجون بثقافة الحياة، يتطلع دائماً إلى الأمام، فالماضي ولى، ومن يريد المستقبل عليه أن يدير ظهره للماضي. التقيناه بعد طول غياب ولكنني عاهدته بأننا سنتكلم عن الأمل وإرادة الحياة، فكان له ما أراد.
بذور الخير وفلسفة الحظ
"ابذر الخير ولو أضعت مكانه فسيدلك المطر أين زرعته"، مقولة يعمل ربيع كيروز بها حتى ولو لم يحفظها، فبالنسبة للمصمم العالمي، الذي يعتبر نفسه محظوظاً بوجود أهل دعموه منذ بداياته في الثانية عشرة من العمر، يقول: "لم يرفض أهلي حلمي بان أكون مصمماً، بل كانوا يدعون لي بالتوفيق، وفي السادسة عشرة من العمر التقيت بالمصممة بابو لحود، التي اقترحت عليَّ الذهاب للالتحاق بنقابة المصممين في باريس، لأبدأ من المركز وهكذا كان".
مما لا شك فيه أن الحظ هو ذكاء في اقتناص الفرص، وبالنسبة لربيع كيروز الذي يرى نفسه محظوظاً، وسعياً منه إلى رد جميل الناس الذين دعموه في مسيرته، أسس مع مساعدته تالا حجار جمعية "ستارتش فاوندايشن"؛ لمساعدة المصممين الشبان الذين لم يلقوا الدعم الذي يستحقونه، وعن تلك الفترة يقول: "لقد لاحظنا غياب مواهب شابة في العقد الأخير، وفي عصر لم تكن السوشيال ميديا بارزة، وتمكنّا من مساعدة مصممين كثر في تلك الفترة، ولكن الاحتياجات تغيرت اليوم، وبات المصمم المغمور في حاجة إلى حشد إمكانات مادية وتجنيد طاقم محترف أكثر من مجرد استئجار متجر في حي راقٍ".
ويستمر ربيع في تقديم المساعدة للمصممين الذين يقصدونه، ضمن مبادرات فردية يرعاها ولا يبخل بالنصح أو الإرشادات النابعة من خبرة عريقة، أهّلته ليحل عضواً في اتحاد الخياطة الفرنسية، وهو شرف يستحقه عدد قليل من المصممين، الذين يعرضون اليوم في أسبوع الهوت كوتور في باريس، فيما يحلّ الباقين كضيوف ينظمون عروضهم بشكل منتظم. وعن شروط الانتساب للاتحاد، يقول ربيع: "هو شرف لي، فالقيمون يتفحصون مشغل المصمم في فرنسا، وطريقة الحياكة وتقنيات العمل؛ للتأكد من تطبيق كل المعايير المطلوبة لصناعة الموضة الراقية. وأنا اليوم أنفذ تصاميم المجموعة في باريس، وأبقي على مجموعة صغيرة لا تزال تنفذ في بيروت بعد العام 2020".
تغيير اللوغو... احتفاء بالحياة
لقد خضعت الدار مؤخراً لتغيير جذري، تمثل بإطلاق اسم جديد للماركة يتألف من ثلاثة حروف، تجسد أول حروف الدار MRK، فالمصمم يؤمن بأن الماركة يجب أن تجدّد نفسها كل عشر سنوات، ويشرح لنا فكرته قائلاً: "بعد عشر سنوات من انطلاقتي، افتتحت مشغلاً في باريس، وبعد عشرين عاماً انتقلنا إلى مشغل جديد، واليوم حان الوقت لمواكبة العصر، وتغيير الاسم إلى آخر عصري يسهل حفظه، حيث أطلق مجموعتين سنوياً، تتراوح ما بين الجاهزة والراقية في مجموعة واحدة، فلقد انتهى عصر المجموعات الكثيرة والمتعددة".
"ولى زمن الكوتور كما كان سائداً في الخمسينات، وحان الوقت لمقاربته بروح معاصرة، فهذا الضخ في إنتاج الخطوط من جاهزة وكروز وراقية يحرم الناس من الجودة ولا يتفق مع منهج الاستدامة "(ربيع كيروز)
إذا كنت من عشاق تصاميم ربيع كيروز ومبادراته لدعم الاستدامة والمصممين الشباب، ننصحك بقراءة المزيد حول مبادرات تدعم تصميم الأزياء
هل ينتقص ذلك من مكانته كمصمم؟
سؤال تبادر إلى ذهننا، مع تحديث الماركة التي تحمل اسمه ونفاه ربيع قطعاً، فبالنسبة له يحرص ربيع كيروز على تطبيق أصول الخياطة الراقية في القطع التي ينفذها تحت هذا الخط، ولكنه يدرجها ضمن مجموعة شاملة منوّعة، إذ يستحيل برأيه على مصمم تنفيذ 4 مجموعات سنوياً بالجودة نفسها، فلقد ولّى كما يقول زمن الكوتور الذي كان سائداً في الخمسينات، وحان الوقت لمقاربة الكوتور بروح معاصرة، فهذا الضخ في إنتاج الخطوط من جاهزة وكروز وراقية يحرم الناس من تطبيق معايير الجودة ولا يتفق مع منهج الاستدامة، الرامية إلى تحقيق ما يسمّى بالموضة البطيئة".
كما يحرص ريبع كيروز على تضمين قطع أيقونية في كل مجموعة يطلقها من باب الاستفادة منها لكل الفصول، وعن تفسيره للأمر، يقول: "عندما أزور بيوتاً عتيقة لا يهم أكانت قصوراً أم مجرد منازل أثرية، أرى كراسي وأريكات حافظت على جمالها رغم مرور ثلاثين عاماً، فبالنسبة لي القماش هو الأساس والتصميم كذلك، لذا تراني أكره الموضة ولكنني أعشق الأزياء".
هذه النظرة الفلسفية التي ميزت ربيع كيروز منذ انطلاقته، واستحق من خلالها لقب "مهندس"؛ لأنه يبني مجموعته، فهو لا يستوحي من محور معين مستقل، فكل مجموعة هي تراكم لما سبقه، وكأنه يبني منحوتة أو يروي فصلاً من كتاب واحد بطله الإنسان ومسرحه الحياة التي تحرك انفعالاته. وعن مصادر إلهامه، يقول ربيع كيروز: "بعد الجائحة وجدتني أصمم قطعاً توحي بالدفء؛ كالمعاطف والكاب بأشكال دائرية؛ تبعث الاطمئنان وتترجم التوق إلى الأمان الذي كنا نفتقده، فنفذت للعام 2023 تصاميم لامرأة تعود إلى كنف منزلها الدافئ بعد يوم شاق، وتستمر الحكاية في العام 2024 لأرسم مشهداً يضم امرأة عاشقة تنتظر حبها العائد بعد غياب".
تلك هي عظمة ربيع وعبقريته القائمة على رواية قصة عاشقة تتمنى لو أن الغياب يغيب يوماً ليلتقيا، مستخدماً بذلك مقصاً وخيوطاً والقليل من القماش ليشكّل بداية لقصة رائعة من كتاب لا ينتهي... كتاب الحياة.
للمزيد من الغوص في شخصية المصمم العالمي بهدف التعرف إلى عالمه الخاص، زوري مع "سيدتي نت" في شقّة المصمّم ربيع كيروز الباريسيّة