لطالما شكَّلت التصاميمُ اليابانيَّة، خاصَّةً لباسَ الكيمونو، مصدرَ إلهامٍ، لا ينضبُ للدورِ العالميَّة، فمنذ أواخرِ القرنِ الـ 19، استقدمَ المصمِّمون العالميَّون القماشَ الياباني الذي يُصنَعُ منه الكيمونو، ويزدانُ برسومٍ منمَّقةٍ من أشجارِ الكرزِ المزهرة، والطاووس، لتصبحَ تلك الأقمشةُ الحريريَّة بحفيفها نافذةً للحلمِ والتحرُّر من القصَّات المحكمةِ على القوام. وسرعانَ ما تلقَّفتها كلٌّ من أوروبا وأمريكا بتأثيرٍ من الحركاتِ النسويَّة قبل أن تنتقل، لتشملَ أزياءَ النهارِ والمناسباتِ المهمَّة. فكيف وصلَ إلينا الكيمونو، وما الجديدُ الذي أضافه هذا الزي إلى عالمِ الموضة؟
أيقونة ثقافية


يدين العالمُ برواجِ زي الكيمونو والقماشِ الياباني إلى انفتاحِ اليابان، منتصفَ القرنِ الـ 19، وتزايدِ التبادلِ التجاري معها، لا سيما عبر مرفأ يوكوهاما بدءًا من عامِ 1859، حيث صدَّر اليابانيُّون حريرَ الهابوتاه Habutae Silk إلى معارضِ الأقمشةِ في فيينا، وهو من أجودِ أنواعِ الحرير، وصار يُستَخدمُ لصنعِ مفارشِ السرير. وعامَ 1867، بدأت الحكومةُ اليابانيَّة، بالتعاون مع منطقةِ ساتسوما، بتصديرِ أزرار «ساتسوما» المصنوعةِ محلياً من السيراميك على شكلِ الورد، إلى باريس، ليتمَّ استعمالها في صناعةِ الملابسِ الفرنسيَّة. ومن الأقمشةِ اليابانيَّة الرائجة أيضاً، المخملُ الياباني المطبَّع بتقنيَّة الستنسل Stincil Printing، وكان الحِرفيُّون اليابانيُّون، ينفِّذونها في مشاغلِ الأقمشةِ عامَ 1910.


ويرمزُ الكيمونو إلى الحِرفيَّة اليدويَّة، واحترامِ التقاليد، ويعني «الشيء الذي يُلبس»، وشاعَ ارتداؤه عند الجنسَين منذ القرنِ الـ 17. والكيمونو، يُجسِّد أسلوبَ الحياةِ اليابانيَّة، ويرتبطُ بحفلاتِ الزفاف، والشاي، وقد تضاءلت شعبيَّته في موطنه الأصلي «كيوتو» حيث أبصر النورَ عامَ 1615 في عصر الإيدو Edo Period، لكنه راجَ في عواصمِ الموضةِ الأربع. وعرفَ اليابانيون الكيمونو بوصفه زياً لمحاربي الساموراي، لكنه كان يقتصرُ فقط على ألوانٍ أساسيَّةٍ، يتداخلُ القماشُ المطبَّع عند أطرافه. وكانت النساءُ العازبات، يرتدين زي الكيمونو المسمَّى Furisode، والمعروفِ بلونٍ موحَّدٍ، وأكمامٍ طويلةٍ، بينما كانت أزياءُ الكيمونو المطبَّعة شائعةً لدى الفنَّانات المسرحيَّات في اليابان. وتدين الموضةُ اليابانيَّة للدنمارك بترويجِ ارتداءِ هذا الزي خارجَ حدودها الجغرافيَّة، وعندما بدأ النبلاءُ الفرنسيَّون بارتدائه، تلقَّفت المصمِّمة البريطانيَّة لوسيل جوردون هذه الصيحة، وتفنَّنت بتصميمِ فساتينَ من وحي الكيمونو منفَّذةٍ من قماشِ القطنِ والكتَّان، أو الحرير، وتزهو برسومٍ طبيعيَّةٍ ملوَّنةٍ. كذلك ارتبط ارتداؤه بفتياتِ «الجيشا» Geisha.
يمكنك الاطلاع على أول مجموعة عبايات كيمونو بتصميم ياباني حصرياً في دبي!



تأثير عالمي


ويعدُّ الكيمونو من أكثرِ القطعِ التي ألهمت الدورَ العالميَّة، وأغنت أرشيفها بتصاميمَ رائعةٍ، وكأنَّها تحفةٌ فنيَّةٌ لجمالِ رسومها وطبعاتها، والتطريزِ المنفَّذ عليها، إذ لتنفيذِ ملابسَ جذَّابةٍ للنهار، استقدمت هذه الدورُ، ومنها جاك دوسيه Jacques Doucet، الكريب دو شين Crêpe de Chine، وهو كريبٌ حريري، يزدانُ برسومٍ منمَّقةٍ لتنفيذِ فساتينَ ناعمةٍ وجميلةِ وخفيفةٍ. كذلك عرفَ العالمُ، أواخرَ القرنِ التاسع عشر، عصرَ الجابونيزم Japonism، أو ما يسمَّى بالملابسِ المطرَّزة بشعاعِ الشمسِ والغيوم التي أطلق عليها اليابانيُّون اسم هنجاتا Hingata، وشاعَ استعمالها في أسبوعِ باريس للهوت كوتور حيث كانت الدورُ العالميَّة تلجأ إلى تجميعِ خاماتٍ عدة من القماشِ في زي واحدٍ أحياناً، فتمزجُ مثلاً الحريرَ المطرَّز بزهورِ أشجارِ الكرز مع الكشمير بنفحةٍ غربيَّةٍ معاصرةٍ. وقد أسهم صدورُ كتابِ المؤلِّف بيار لوتي عن زهرةِ الأقحوان التي تُزيِّن الأقمشةَ اليابانيَّة في رواجها بشكلٍ كبيرٍ، لتصبحَ هذه الزهرةُ رمزاً للموضةِ اليابانيَّة، والتفاؤلِ، والصدقِ، والحب. أيضاً كان لشركةِ ليبرتي أند كو Liberty & Co، التي تأسَّست أواخرَ القرنِ الـ 19، دورٌ كبيرٌ في رواجِ القماشِ الياباني المطلي بالورنيش Lacquer، والمنفَّذِ من خيوطٍ لامعةٍ، والذي يجسِّد برسومه طبيعةَ الجبالِ في اليابان. وتسابقت دورُ الأزياءِ العالميَّة على شراءِ هذه الخامات.


وعامَ 1907، سادت التصاميمُ ذات الأكمامِ الواسعة المستوحاةُ من الكيمونو في منصَّات العروضِ الباريسيَّة.
وفي العشرينيَّات من القرنِ الماضي، استقدمت المصمِّمة الفرنسيَّة جان باكين Jeanne Paquin القماشَ الياباني، ونفَّذت منه معاطفَ بقصَّةِ الكيمونو للسهراتِ والمناسباتِ الفخمة، وتالياً طوَّر المصمِّم بول بواريه Paul Poiret هذه المعاطف، وجعلها على شكلِ فساتينِ سهرةٍ، لكنَّه حوَّل نقطةِ ارتكاز القصَّة إلى الأكتافِ بدل الخصر، كما جرت العادة، وتمَّ تنسيقُ أوشحةٍ حريريَّةٍ متَّصلةٍ بـ «المعطف الكيمونو».
وألهمت طبيعةُ اليابان تصاميمَ كثيرةً للمبدعةِ جان لانفين Jeanne Lanvin التي نفَّذت فساتينَ كيمونو، تزدان بعقدةٍ كبيرةٍ عند الخصر، وتتميَّز بثلاثيَّةٍ لونيَّةٍ، تتمثَّل في الأحمرِ والأسودِ والذهبي المرتبطةِ بالدول الآسيويَّة.



خيوط التقاليد
يتجلَّى الذهبُ في تصاميمِ مبدعي الشرقِ البعيد الذين يستعينون بقماشِ الدرابيه الحريري ممزوجاً بالفنِّ الهندي حيث يتمُّ التطريزُ بالذهب، ليجسِّدَ الكيمونو رحلةً إلى الماضي، تتخطَّى حدودَ المكان، وتصلُ إلى متحفِ برانلي Musée du Quai Branly في باريس، فابتداءً من 11 فبراير، يُنظِّم المتحفُ معرضاً بعنوان «بواسطة خيطٍ من الذهب.. فنُّ اللباسِ من الشرق إلى المشرق»، يتمحورُ حول فنِّ تصميمِ وصناعةِ النسيجِ الصيني والياباني والهندي، ليصلَ إلى دولِ حوضِ البحرِ الأبيض المتوسط. ويرتكز المعرضُ على هذه الدولِ التي أطلقت مزجَ التطريزِ والحياكةِ بخيوطِ الذهب في النسيجِ بدءاً من المغرب، ووصولاً إلى اليابان. تقولُ هنا البنَّا شدياق، منظِّمةُ المعرض، لوكالةِ الصحافة الفرنسيَّة: «إننا ندينُ لهذه التقنيَّة في الحياكةِ إلى قارة آسيا وشمال إفريقيا ودول البحر المتوسط».

ويُقسَم المعرضُ إلى خمسةِ أجنحةٍ، تتوزَّع حسبَ المناطقِ الجغرافيَّة، فالأوَّلُ محصورٌ بالقفطانِ، والتونيك، والجيليه، والكورسيه، ومصدرها الأساسُ المغرب، والثاني مكرَّسٌ للملابسِ المصريَّة القديمة، واللبنانيَّة الفينيقيَّة، والتركيَّة، والعراقيَّة، واليمنيَّة، والفارسيَّة، والثالثُ مخصَّصٌ للأزياء التراثيَّة في المملكة العربيَّة السعوديَّة، والإمارات، والبحرين، والكويت، وقطر، فكلما تعمَّقنا في النسيجِ المُعتَمد في شبه الجزيرة العربيَّة، ندرك فوراً تأثيرَ النسيجِ المهني عليها. أمَّا الجناحُ الرابع فمحدَّدٌ للتعريفِ بتقنيَّة الدرابيه، وهي سمةٌ لدولِ جنوب وجنوب شرقي آسيا حيث نرى زي الساري الفاخر، والسونجيه Songhai، تلك الأزياءُ المستطيلةُ الحريريَّة الشائعةُ بالمناسباتِ في ماليزيا وإندونيسيا. في حين خُصِّص الجناحُ الأخيرُ لنسيجِ آسيا الشرقيَّة، وهو عبارةٌ عن كيمونو حريري مطرَّزٍ بتقنيَّةٍ فرنسيَّةٍ، تعتمدها ميزون لوساج. وتعتمدُ الأزياءُ اليابانيَّة المعروضةُ على ثلاثةِ أنواعٍ من الحرير، هي الحريرُ البحري، والحريرُ العنكبوتي من مدغشقر، والحريرُ الذهبي من كمبوديا، ويبدو واضحاً طغيانُ الذهبِ على تصاميمها. وقد كرَّم المعرضُ المصمِّمة الصينية غوو باي Guo Pei التي تعتمدُ على الحريرِ الفاخرِ بأنواعه الثلاثة، إذ يرتقي بالزي مهما كان بسيطاً. وتمَّ تخصيصُ 14 زياً للمصمِّمة المبدعة في واجهةِ المعرض، الذي يستمرُ حتى 6 يوليو المقبل.
ما رأيك بالتعرف على المنمنمات اليابانية تقليد ثقافي تراثي يكرس لحرفية الأداء ودقة الصنعة

الأساتذة اليابانيون


في الستينيَّات، عرفت الموضةُ اليابانيَّة قفزةً نوعيَّةً مع المصمِّمة هناي موري Hanae Mori التي استعانت بالكريب الحرير المجعَّد لتنفيذِ فساتينَ ومعاطفَ يابانيَّةِ الطراز في عرضِ مجموعتها عامَ 1965.
وفي السبعينيَّات، حازت الفساتينُ اليابانيَّة التي صمَّمها المبدعُ كنزو تاكادا Kenzo Takada لداره اهتمامَ النساءِ وعشَّاق الموضةِ بفضل الطبعاتِ الجريئة، والقصَّات الانسيابيَّة المتحرِّرة التي تناغمت مع الحركاتِ النسويَّة الناشطةِ منذ مايو 1968.


هذا الاتِّجاه، رسَّخته دارُ المصمِّم إيسي مياكي Issey Miyake الذي عشقَ الموضةَ اليابانيَّة، ودرسَ التصميمَ في باريس، فجاءت تصاميمه مزيجاً من الشرقِ والغرب بعقليَّةٍ منفتحةٍ. وعامَ 1973، قدَّم مياكي مجموعةً من التصاميمِ الجاهزة المنفَّذةِ من القماشِ الياباني بخطوطٍ أوروبيَّةٍ عصريَّةٍ، وشكَّلت الدارُ مصدرَ إلهامٍ، ونقطةَ ارتكازٍ وتحوُّلٍ في الموضة اليابانيَّة حيث استندَ إليها المصمِّمون اليابانيُّون لاحقاً.

من اليسار: المصمم يوجي ياماموتو Yoji Yamamoto- مصدر الصورة Launchmetrics/Spotlight ©
وفي بدايةِ الثمانينيَّات، أسهمت المصمِّمة يوجي ياماموتو Yohji Yamamoto في بدايةٍ ثوريَّةٍ للتصاميمِ اليابانيَّة، إذ استعانت بالقماشِ الياباني، وأحدثت فيه ثقوباً، وطوَّرت تقنيَّاتِ معالجته ليواكبَ القصَّاتِ الواسعةَ العصريَّة، وغير المتجانسةِ في الأطرافِ التي تمَّ التنفيذُ عليها. وفي التسعينيَّات، طوَّر إيسي مياكي Issey Miyake الفساتين، فابتكر نوعاً من القماشِ المكسَّر بدرجاتٍ عموديَّةٍ منمَّقةٍ تحت اسم Pleats Please. وتميَّز الفستانُ بطبعاته، وتقنيَّاته ثنائيَّة الأبعاد، فالزي لا يتلفُ، ولا يجعد، ويمكنه أن يُلبِس كلَّ مقاييسِ النساء. كذلك في التسعينيَّات، أحدثت المصمِّمة راي كاواكوبو Rei Kawakubo، مؤسِّسة علامة Comme des Garçons، ثورةً في عالمِ التصاميم المستوحاةِ من الحضارةِ اليابانيَّة حيث ابتكرت أزياءً بقماشِ الكيمونو وقصَّته، لكنها أحدثت ثقوباً في الزي على شكلِ دمعةٍ، ومزجت بين الحِرفيَّة التقليديَّة، والروحِ العصريَّة الأمرُ الذي خلقَ أزمةَ هويَّةٍ لدى بعضهم، لكنَّه قرَّب الموضةَ اليابانيَّة إلى أذهانِ الناس في العالم.
اقرأ أيضًا... رحيل المصمّم الياباني إيسيه مياكي


الشرق يلتقي بالغرب
تحملُ أكمامُ الكيمونو الواسعةُ والمتدفِّقة، والمعروفةُ ببساطتها ورقيها معنى أعمقَ مما قد يبدو للوهلةِ الأولى. لقد عكست الفلسفةَ اليابانيَّة المتمثِّلةَ في الأناقةِ البسيطة، والانسجامِ مع البيئةِ المحيطة.
اكتسبت أكمامُ الكيمونو شهرةً في عشرينيَّات القرنِ الـ 20 عندما اعتنقَ أسلوبُ «الزعنفة» مفاهيمَ الحريَّة، وكسرَ الأعرافَ الاجتماعيَّة، وأضافت الأكمامُ الواسعةُ والحرَّة لمسةً من الإثارةِ والثقةِ إلى أزياء العصر.
وفي السبعينيَّات، أدَّى التأثيرُ العالمي إلى إحياءِ أكمامِ الكيمونو، لا سيما مع وصولِ الأقمشةِ المطبوعة، وخفيفةِ الوزن. وسمحَ هذا الاتِّجاه للمصمِّمين بتجربةِ أطوالٍ، وأشكالٍ مختلفةٍ لأكمامِ الكيمونو، وتكييفها مع الأذواقِ، والتفضيلاتِ في ذلك الوقت. وفي القرنِ الـ 21، تمَّ إعادةُ تصميمِ أكمامِ الكيمونو بأسلوبٍ حديثٍ سواء في منصَّاتِ العرض، أو مجموعاتِ الملابسِ الجاهزة، وهو ما شاهدناه في عروضِ ربيع 2025.
يمكنك متابعة الموضوع على نسخة سيدتي الديجيتال من خلال هذا الرابط


- راهول ميشرا الخياطة الراقية ربيع 2025 Rahul Mishra.- مصدر الصورة Launchmetrics/Spotlight ©
- كوم دي غارسون الأزياء الجاهزة ربيع 2025 Comme des Garçons - مصدر الصورة Launchmetrics/Spotlight ©
- كارولينا هيريرا الأزياء الجاهزة ربيع 2025 Carolina Herrera- مصدر الصورة Launchmetrics/Spotlight ©
- إيلي صعب الخياطة الراقية ربيع 2025 Elie Saab- مصدر الصورة Launchmetrics/Spotlight ©
- أرماني بريفيه الخياطة الراقية ربيع 2025 Armani Privé- مصدر الصورة Launchmetrics/Spotlight ©
- توماس نيميك الأزياء الجاهزة ربيع 2025 Tomas Nemec- مصدر الصورة Launchmetrics/Spotlight ©
- إيسي مياكي الأزياء الجاهزة ربيع 2025 Issey Miyake- مصدر الصورة Launchmetrics/Spotlight ©
- أليكسي مابيّ الأزياء الجاهزة ربيع 2025 Alexis Mabille- مصدر الصورة Launchmetrics/Spotlight ©
- تامارا رالف الخياطة الراقية ربيع 2025 Tamara Ralph- مصدر الصورة Launchmetrics/Spotlight ©
- سوكاز الأزياء الجاهزة ربيع 2025 SuKaz- مصدر الصورة Launchmetrics/Spotlight ©
- علايا Alaia- مصدر الصورة Launchmetrics/Spotlight ©