mena-gmtdmp

بيت كنز.. معلم تراثي لبناني يجمع الطعام والتقاليد والمهارات الحرفية

يشتهرُ بهندسته التقليديَّة المميَّزة وسطَ حي راقٍ في بيروت، العاصمة اللبنانيَّة. هدفه إعادةُ إحياءِ التراث، والحفاظُ عليه، ونقله من جيلٍ لآخر، والتمسُّك بالمهاراتِ الحِرفيَّة اللازمة لتحقيقِ تغييرٍ دائمٍ وقابلٍ للتجديدِ في المناطق الريفيَّة اللبنانيَّة، وتوفيرُ حلولٍ مستدامةٍ، تستغلُّ الفرصَ غير المحدودة. «بيت كنز»، اتَّخذ مقراً له في مبنى، شُيِّد مطلعَ القرن الـ 19 في حي سرسق القديم. يتألَّفُ من ثلاثِ طبقاتٍ، ودُمِّر بالكاملِ خلال انفجارِ مرفأ بيروت، 4 أغسطس 2020، وتوفيت صاحبتُه مارغو طبَّال جرَّاء إصابتها في الانفجار.
 

عفت شهاب الدين
تصوير | فاتشيه أباكليان


ملتقى ثقافي ومنصة للحِرفيين

مايا ابراهيمشاه

 

يضمُّ «بيت كنز» منتجاتٍ تراثيَّةً، ويوفِّرُ فرصَ عملٍ، ترتبطُ بالإرثِ، والصناعاتِ الصغيرة، والمطبخِ والأعمالِ اليدويَّة والحِرفيَّة. استُعِين بأساتذةٍ في التاريخ، وبجمعيَّة «أبساد»، التي تهتمُّ بحمايةِ المواقعِ الطبيعيَّة والمباني القديمة، لاختيارِ كلِّ الموادِّ المستخدمةِ بدقَّةٍ كبيرةٍ في ترميمه، وتحيطُ به حديقةٌ جميلةٌ، تضمُّ مختلفَ أنواعِ الأشجار الساحليَّة التي تنتشرُ رائحتها الفوَّاحةُ في الأرجاء، لا سيما الياسمين. هو ملتقى ثقافي، ومنصَّةٌ للحِرفيين المحليين لتقديمِ مهاراتهم للعالم، إذ يضمُّ «بيت كنز» صانعي الفخَّار، والنسَّاجين، والمصمِّمين، والمطرِّزين، والنحَّاسين، ونافخي الزجاج، وصانعي الصابون، وعمَّال الخشب، ويقدِّمُ الحِرف اليدويَّة اللبنانيَّة من خلال تشجيعِ الحِرفيين والنساءِ على إنتاجِ مزيدٍ من القطع، والإبقاءِ على حِرفهم باستخدامِ تقنياتٍ، تتماشى مع توجُّهات الفنِّ الحديث. يروي هذا البيتُ قصَّةَ مدينةٍ، لا تزالُ تتشبَّث بجذورها وتاريخها وحضارتها، وفي الوقتِ نفسه، يُكرِّم حداثتها، ومطبخها، وأزياءها، وطابعها الحِرفي. ويوفِّرُ «بيت كنز» حلولاً مستدامةً، تستغلُّ القدراتِ الكبيرةَ في لبنان، وبينها ما يصبُّ في خانةِ تمكين المرأة، إذ ينقلُ إلى النساءِ المهاراتِ اللازمةَ من «بيت البركة»، ليصبحن مُنتِجاتٍ ومكتفياتٍ ذاتياً. تمَّ ترميمُ البيتِ من جانبِ الجمعيَّة الأوروبية «الجيلد»، وتعودُ جميع عائداته الماديَّة إلى جمعيَّة «بيت البركة» للاستمرارِ بعملها، وتغطيةِ مصاريفها السنويَّة. بهذه الطريقةِ، بات «بيت كنز» ملتقى ثقافياً، يحتفي بالتراثِ، والأصالةِ، والتاريخ، خاصَّةً أن أبوابه مفتوحةٌ أمام كلِّ الزوَّار للتعرُّف عن كثبٍ على الأساليبِ الهندسيَّة الكثيرة التي تعكسُ تاريخَ العمارةِ في بيروت، والتمتُّع بمشاهدةِ الأسقفِ المزخرفة، وتقسيمِ غرفه الأربع المزيَّنة بديكوراتٍ تراثيَّةٍ، وأخرى حديثةٍ، تُشكِّل نموذجاً حياً للبيتِ البيروتي العريق.

وحول قصَّة هذا البيتِ الفريدِ من نوعه، توضحُ مايا إبراهيم شاه، مؤسِّسةُ «بيت البركة» و«بيت كنز»، أنه «مع مهامِّ الجمعيَّة، التي تكبرُ مع الوقت، لا سيما بعد التوجُّه للعملِ في الزراعةِ، والإنتاجِ، والتصدير مع نساءٍ وسيداتِ منازلَ في عددٍ من المناطقِ اللبنانيَّة، فُتِحَت فرصُ عملٍ لهن، وأخذن يعملن بالمونةِ اللبنانيَّة، والأشغالِ اليدويَّة التي تعدُّ بمنزلةِ بابِ فرجٍ لهن، ليعشن بكرامةٍ مع عائلاتهن». تضيفُ: «انطلقنا في تصديرِ هذه المنتجات، وكبرت عائلتنا بشكلٍ ملحوظٍ، إذ وصل العددُ إلى أكثر من ألفِ سيِّدةٍ في 53 قريةً لبنانيَّةً. هنا حان الوقتُ لافتتاحِ هذا التراثِ المعماري، بيت كنز، الذي جاء ليُكمل أهدافَ جمعيَّة بيت البركة بأن يكون موقعاً لتصريفِ هذه الإنتاجاتِ محلياً، وبقعةَ ضوءٍ وسطَ بيروت بوصفه ملتقى لمحبِّي فنِّ الطهي والحِرف التقليديَّة».

ويختلفُ «بيت كنز» عن سواه من منازلِ حي سرسق الراقي في بيروت، إذ يُشكِّل بهندسته الفريدة، واحتضانه التراثَ اللبناني تجربةً رائدةً لمطعمٍ، تُستَخدم عائداته في تمويلِ أنشطةٍ إنسانيَّةٍ، ومشروعاتٍ تهدفُ إلى إبقاءِ الشباب اللبنانيين تحت سماءِ بلدهم بتأمينِ فرصِ عملٍ مُنتجةٍ لهم حيث أمَّن هذا البيتُ فرصَ عملٍ لنحو 60 شخصاً، إضافةً إلى آخرين من حِرفيين، ومنتجين، أسهموا في ترميمه، وإعادة إصلاحه. يُذكَر أن هذا المبنى الأثري تضرَّر بشدَّةٍ جرَّاء انفجارِ 4 أغسطس 2020، وتمَّ ترميمه من قِبل المؤسَّسةِ الأمِّ «بيت البركة» بعد جمعِ الأموالِ للحفاظ عليه من جهاتٍ مانحةٍ، تدعمُ الحفاظَ على التراثِ المعماري.

يمكنك أيضًا الاطلاع على التصميم جزءٌ من التراث اللبناني العريق

دقَّةُ ديكورات وجمالها ، وكأنَّ الزائرَ يتجوَّل داخلِ متحفٍ صغيرٍ
المطعمُ مصمم على طريقةِ البيسترو الفرنسي المطبوعِ بهويَّة بيروت


الكلاسيكية والحداثة

إلسا بخعازي

 


يجمع هذا الموقعُ التراثَ اللبناني من جميعِ المناطق، من الجنوبِ إلى الشمال وصولاً إلى بيروت، ونلاحظُ في كلِّ غرفةٍ من غرفه خلفيَّةً ثقافيَّةً، توصلُ لزائره معلوماتٍ مختلفةً، تتعلَّقُ بتاريخِ الأزياءِ الخاصَّة بالمرأة اللبنانيَّة مروراً بناقوسِ أحيرام، ووصولاً إلى الأزياءِ المطبوعةِ في الغرب.

أمَّا في قائمةِ الطعام، فتمَّ إدراجُ تاريخِ كلِّ طبقٍ إلى جانبه، وكيفيَّة تطوُّره، وأصوله اللبنانيَّة. كذلك وُضِعَت معلوماتٌ عن شخصيَّاتٍ لبنانيَّةٍ، وعن الحِرف الأشهر في البلادِ منذ القِدم. وبين الليوانِ والدارِ والمربَّع، يتجوَّل النظرُ في أقسامِ المنزل الذي يسترعي الانتباه فيه دقَّةُ ديكوراته وجمالها مع رسمٍ لشتلةِ ياسمين، وكأنَّ الزائرَ يتجوَّل داخلِ متحفٍ صغيرٍ، يروي تاريخَ مدينةٍ بهندسته وتقطيعاتِ مساحته البالغةِ 400 مترٍ مربَّعٍ، دون أن ننسى الأسقفَ المزخرفةَ برسوماتٍ يدويَّةٍ، والأبوابَ المتوَّجةَ بالقناطر، ونوافذَ المندلون البيروتيَّة. كلُّ هذا يدلُّ على الانسجامِ والتواصلِ ما بين الكلاسيكيَّة والحداثة، كما تشيرُ إلسا بخعازي، مسؤولةُ العلاقاتِ العامَّة، في حديثها.

وتُكمِل إلسا شرحها: «تنقسمُ مساحةُ بيت كنز، الذي يشتهرُ بقناطره، إلى أربعِ صالاتٍ، هي بيتُ المونة، ويضمُّ الموادَّ الغذائيَّة التي درج اللبنانيون القدامى على حِفظها وتخزينها للشتاء، والمتجرُ الحِرفي، وتُزيِّن رفوفه الأواني النحاسيَّة والزجاجيَّة، والشموع، والمكتبةُ، وتؤمِّنُ لروَّادها مجموعةً من الكتب، إلى جانبِ مطعمٍ، يتميَّز بسقفه الخشبي المنحوت، وقائمةِ طعامه المستمدَّة من التراث. ويعودُ ريعُ كلِّ عائداتِ البيت الماديَّة لجمعيَّة البركة التي جمعت فيه الفنونَ، والثقافةَ، والتراث».

وعن الغايةِ من البيتِ، تجيبُ: «يهدفُ بيت كنز إلى إعادةِ إحياءِ التراث، والحفاظِ عليه، ونقله من جيلٍ لآخر كيلا يتلاشى التاريخُ، والثقافةُ، والحضارةُ، والتراثُ مع تغيُّر طريقةِ العيشِ والأكلِ، والتقاليدِ والعادات».
وتوضحُ ختاماً، أن «هيكليَّة مبنى بيت كنز محكومةٌ بتراثه المتمثِّل في أسقفه وأحجاره الرمليَّة، حتى المطعمُ فيه، تمَّ تصميمه على طريقةِ البيسترو الفرنسي المطبوعِ بهويَّة بيروت، مع طاولاتٍ من الرخام، ومقاعدَ وثيرةٍ من القماش. وفي غرفةِ المكتبة، المُطلَّة عبر واجهاتها الزجاجيَّة على الحديقة، هناك صورٌ عن بيروت القديمة، أمَّا في غرفةِ المونة، فتجتمع أناملُ سيِّداتٍ لبنانيَّاتٍ في صناعةِ المربَّيات، والعصائرِ، والزعتر البلدي، لتحضيرِ مونةٍ، لا تشبه غيرها بأصالتها وجودةِ إتقانها».

يمكنك متابعة الموضوع على نسخة سيدتي الديجيتال من خلال هذا الرابط

بيتُ المونة، ويضمُّ الموادَّ الغذائيَّة التي درج اللبنانيون القدامى على حِفظها وتخزينها للشتاء
المونةِ اللبنانيَّة
المتجرُ الحِرفي، وتُزيِّن رفوفه الأواني الفخارية والنحاسيَّة