يقول الباحث الشرعي نجيب عصام يماني: على الرغم من صدور قرار هيئة كبار العلماء والذي يمنع عضل المرأة ومنعها من الزواج، فإن العضل لا يزال مستمرا، ومازال تحكم الآباء قائما في العديد من مدن المملكة، حتى ولو كانت المرأة طبيبة أو مدرسة، أو حتى بلغت من الكبر عتيّا.
الغريب كما يقول يماني أن هذا القرار، والذي صدر من أعلى سلطة دينية، لم يعلق عليه أحد من المتحمسين، مثلما تم التعليق على قرار عمل المرأة كاشيرة، رغم أن عملها هو من باب العادات بعكس زواجها، فهو من باب العبادات، حتى أصبحت العوانس والعواطل سمة غالبة على مجتمعنا، نتيجة التحكمات، وإعطاء الرجل سلطة عشوائية لا أساس لها في الدين الإسلامي ليتحكم في المرأة، ساعدته الظروف الذكورية المحيطة به من كل جوانب الحياة، ليحكم قبضته على المرأة في زواجها وسفرها وعملها وتعليمها، صكت بعض الجهات أذنيها عن سماع شكوى المرأة، بل واعتبرتها من العقوق الذي يوجب العقاب، والإسلام بريء من كل أشكال العنف والتحكم ضد المرأة.
الستر والصلاح
يضيف يماني: ورد في كشاف القناع للبهوتي (3/24)... يؤخذ بتعيين بنت تسع سنين فأكثر كفؤاً لتتزوجه، ولا يُؤخذ بتعيين الأب أو وصيه، وعلّلوا ذلك بأن النكاح يُراد للرغبة، فلا تُجبر على من لا ترغب فيه، فإن امتنع الولي المجبر بتزويج من عينته بنت تسع سنين فأكثر فهو عاضل، وسقطت ولايته ويفسق إن تكرّر عضله، يقول الحق: «وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ»، جاء في تفسير القرطبي (12/239) أن هذه الآية تدخل في باب الستر والصلاح، أي زوّجوا من لا زوج له منكم، فإنه طريق التعفف والخطاب للأولياء، ويقول الرازي في تفسيره (23/211): إذا طلبت المرأة من وليها التزويج وجب أن يزوجها، ووجوبه يقتضي الإسراع في تنفيذه، فإنه طريق الستر والصلاح والتعفف، وكل ذلك يقتضي الإسراع في تزويج الفتاة إذا بلغت، جاء في تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي (4/189) قول النبي صلى الله عليه وسلم: «يا عليّ ثلاث لا تؤخرها. الصلاة إذا أتت، والجنازة إذا حضرت، والأيم إذا وجدت لها كفؤاً»، وفي الجامع الصغير للسيوطي (1/471) أن المقصود بقوله «والأيم إذا وجدت كفؤاً» أن الأيم هي نفسها وجدت لها كفؤاً، وقد جاء في شرح الحديث تعجيل الصلاة والجنازة والأيم، لما يشملها من معنى اللزوم فيها، وثقل محلها على من لزم عليه مراعاتها والقيام بحقها، ومما لا شك فيه أن الولي بعضله لفتاته يأثم، ورد ذلك على لسان السيوطي (2/465) عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: «مكتوب في التوراة من بلغت له ابنة فلم يزوّجها فأصابت إثماً فإثم ذلك عليه»، وفي أحكام النساء لابن الجوزي ص (204) أن عمر قال: «زوّجوا أولادكم إذا بلغوا لا تحملوا آثامهم»، ورد في المعجم الوسيط (2/613) أن عضل المرأة يعني منعها التزوج ظلماً، وفي كشاف القناع للبهوتي (3/30) أن عضل الولي منع موليته أن تتزوج بكفء إذا طلبت ذلك ورغب كل منهما في صاحبه بما صحّ مهراً، ولو كان بدون مهر مثلها، لقد كرّم الله المرأة، ولعل من صور تكريمها أن أعطاها الحق كاملاً في اختيار زوجها ومن ترغب العيش معه تحت سقف واحد؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا تُنكح الأيم حتى تستأمر، ولا تُنكح البكر حتى تُستأذن»، ورد في نهاية المحتاج (6/219) أن الشافعية أجازوا للمرأة البالغ العاقلة البكر للضرورة أو الحاجة أن تولي زواجها لمجتهد أو لرجل عدل ليزوّجها من خاطبها، وفي مغني المحتاج (3/147): «وكذا لو ولّت مع خاطبها عدلاً ليزوّجها منه صحّ على المختار، وإن لم يكن مجتهداً لشدّة الحاجة إلى ذلك».
يسوغ فيه الاجتهاد
في المغني لابن قدامة (6/450) وكشاف القناع للبهوتي (6/27) أنه إذا زوّجت المرأة البالغ العاقلة البكر نفسها، ولو بإذن وليها، لم يصح النكاح لعدم وجود شرطه وهو (الولي)، والولي لا يملك إجازتها أمر النكاح فلم يكن لإذنه لها فيه تأثير في وقوعه صحيحاً، ولكن لو حكم بصحته حاكم أو كان المتولي عقده حاكماً يرى صحته لم يُنقض؛ لأنه مما يسوغ فيه الاجتهاد، وليس كما تفعل بعض المحاكم بإبطال الزواج، فلا يجوز نقض الحكم بصحته، كما هو الحكم في سائر مسائل الاجتهاد، وقد استند بعض العلماء على أنه يجوز للمرأة أن تباشر عقد الزواج بنفسها دون ولي الأمر إذا كانت بالغة عاقلة، فلها أن تنفرد باختيار الزوج وأن تنشئ العقد بنفسها، بكراً كانت أم ثيبا، ولا يحق لأحد الاعتراض عليها، مستندين إلى قوله تعالى: «فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ»، وفي هذه الآية إشارة صريحة في نهي الولي عن الامتناع عن تزويج موليته بالكفء إذا رغبت فيه، وقوله تعالى: «فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا»، فقد نسب الحق سبحانه مباشرة العقد إلى المرأة نفسها، وليس في الآيات ذِكر لوليها. ومن القواعد الأصولية أن مطلق القرآن لا يخصص بخبر الآحاد، وفي السُنّة قوله صلى الله عليه وسلم: «الأيم أحق بنفسها من وليها»، والأيم هي المرأة التي لا زوج لها، سواء كانت بكراً أم ثيبا، ونص الحديث الذي رواه ابن عباس أنه جعل الحق الأكبر في الولاية للمرأة دون الولي. وقد أبطل نبي الرحمة نكاحاً عقده الأب بدون رضا ابنته، ثم جعل أمرها إليها، وورد في مصنف أبي شيبة أن رجلاً زوّج ابنته، وقال للرسول: لم أر لها خيراً منه، فقال رسول الله: «لا نكاح لكِ اذهبي فانكحي من شِئت»، كما استدل القائلون بعدم شرط الولي لصحة النكاح بفعل السيّدة عائشة التي زوّجت ابنة أخيها عبدالرحمن في غياب أبيها في اليمن، وعن قتادة أن امرأة قالت: يا رسول الله إن أبي زوّجني من ابن أخيه ليرفع بي خسيسته، فجعل الأمر إليها، فقالت: قد أجزت ما صنع أبي، ولكن أردت أن أعلِّم النساء أنه ليس للآباء من الأمر من شيء.
صحة العقد
إن أغلب الأحاديث التي وردت في هذا الموضوع قد اشترطت إذن المرأة، وفي هذا معاني صحة العقد إذا باشرته المرأة بنفسها، وبأن لها مطلق الحرية في التصرف في مالها، فمن باب أولى لها حق التصرف في نفسها ورقبتها وجسدها، كما ثبتت أهليتها لجميع التكاليف الشرعية بالكتاب والسنّة والبضع (الفرج) حقها دون الولي، ولهذا يكون بذلة لها فقد تصرّفت في خالص حقها فجاز لها ذلك، ولأنها تمتلك الإقرار بالنكاح فتملك الإنشاء، ورد هذا في فتح القدير (3/293)، وبدائع الصنائع (2/248)، وفي المبسوط للسرخسي (5/10)، والبناية شرح الهداية (4/574)، وإعلاء السنن (11/65)، وتبيين الحقائق (2/127)، وفي البحر الرائق (3/117)، وحاشية ابن عابدين (2/255)، كما ورد في بداية المجتهد ونهاية المقتصد (3/20) أن العلماء اختلفوا: هل الولاية شرط من شروط صحة عقد النكاح أم أنها ليست بشرط؟ فذهب مالك إلى أنه لا يكون النكاح إلا بوليّ، وأنه شرط في صحة العقد، وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة وزفر والشيعي والزهري: إذا عقدت المرأة نكاحها بغير وليّ وكان كفئا جاز ذلك، وفرّق داود بين البكر والثيب، فقال باشتراط الولي في البكر وعدم اشتراطه في الثيب، وعن مالك أن اشتراط الولي سُنّة لا فرض، وسبب اختلافهم أنه لم تأت آية ولا سُنّة هي ظاهرة في اشتراط الولاية في النكاح، فضلاً عن أن يكون في ذلك نص، بل إن الآيات والسنن التي جرت العادة الاحتجاج بها عند من يشترطها هي كلها محتملة، عموماً اتفق العلماء على أنه ليس للولي أن يعضل وليته إذا دعت إلى كفء وبصداق مثلها، وأنها ترفع أمرها إلى القاضي فيزوّجها، ولا يحق لقاضٍ آخر أن ينقض هذا الحكم، فهذه تُعتبر في المذهب الحنبلي مخالفة صريحة، فلو أن قاضيا حكم في مسألة من المسائل بحكم، حتى ولو في المذهب، لا يجوز لأي قاضٍ آخر في نفس المذهب أن ينقضه، فالإسلام لديه الحل لكل مشكلات المجتمع، ولكن المشكلة سوف تظل قائمة ما لم يكن هناك قُضاة يفعِّلون مثل هذه الأحكام، ويؤمنون أن الاختلاف رحمة بهذه الأمة، وأن في سعة المذاهب الإسلامية خيرا ورحمة.
إن الشريعة قائم أمرها على مراعاة مصالح الناس وشؤونهم، والمرأة من الناس، بل هي الأساس.