الرجل متقدم في السن. السبعون أو أكثر. هندامه أنيق، كأغلب الأجانب الذين تعج بهم المنطقة، وملامحه بالغة صارمة.
تعرفت عليه عندما انتقلت إلى شقتها المطلة على البحر. خمسون مترًا مربعًا لا غير. ومبلغ خيالي لاقتنائها. باعت حليها، وسيارتها، وحصتها في إرث والدها، واقترضت من البنك قبل أن تستطيع تحقيق حلمها.
شرفة زجاجية واسعة تطل على البحر. هدوء لا يقدر بثمن. وجيران لا يتطفلون على بعضهم.
شقته تلاصق شقتها. حاجز خشبي قصير يفصل شرفتيهما.
تلتقيه يوميًا تقريبًا، عندما تنزل لتتمشى على الشاطئ، وحين تقف بانتظار الحافلة. يتحرك كثيرًا. يستند أحيانًا على عكاز لا يبدو أنه بحاجة إليه، ويمضي مستمتعًا بالشمس والدفء والهواء البحري النقي. وجه جملته الطويلة الأولى لها ذات صباح، عندما نزلت الدرج بسرعة للحاق بالحافلة. كان يقف في مدخل البناية. طلب منها أن تدله على المقبرة. فغرت فاها بذهول. وكرر سؤاله. دلته عليها. المقبرة الوحيدة الموجودة في هذه الناحية من المدينة غير بعيدة. لكنها في الخلاء.
» لا مشكلة.» رد «لا أخاف من الموتى...«
أخبرها فيما بعد بأنه زار المقبرة. وتفاجأ بمقدار الإهمال الذي وجده فيها. اكتشفت فيه شخصًا حاد الطباع، قاسي الأحكام. قال إنه يعشق البلد، ويكره سكانها «كلهم كسالى، يعتقدون بأننا صيد سهل؛ لأننا لا نتحدث لغتهم. وهم مخطئون...». أخبرها بأنه اشتغل طويلاً مراسلاً لصحف أوربية، وجاب العالم، ولم يرتح لمدينة مثلما ارتاح لطنجة.
طرق بابها ذات صباح، ومد إليها مفاتيح شقته. «سأغيب بعض الوقت. هلا أسديت لي معروفًا؟ اسقي نباتاتي رجاءً».
بدأت تتردد على شقته. أحواض الأعشاب والزهور تملأ كل الأركان، تطغى على الأثاث، وتشيع جوًا من البهجة في البيت.
لمحت الرفوف المثقلة بالكتب. تصفحت بعضها. تأملت التحف والمشغولات اليدوية. منحوتات، ومجسمات، وهياكل حيوانات، ودمى.
رأت فوق منضدة جانبية ألبوم صور. فتحته بفضول، واتسعت عيناها من الدهشة. صور مقابر، من كل أنحاء العالم. من أوربا وأميركا وبعض البلاد العربية. صور كئيبة للغاية، تحت كل منها عبارات تعرف بالأماكن التي أخذت فيها. صور أخرى لأشخاص علقت عليها يد العجوز بخط منمق وجميل. «والدي المتوفى بتاريخ... والدتي المتوفاة بتاريخ... زوجتي المتوفاة بتاريخ... لائحة طويلة من الموتى، تختمها صور حديثة للمقبرة القريبة التي سألها عنها، وصورة شخصية لها وهي تقف في رأس الشارع بانتظار الحافلة.
بلعت ريقها بصعوبة. لا تعليق تحت الصورة.
قامت بعصبية. ماذا تفعل وسط الموتى؟ غادرت المكان وقلبها يخفق. الرجل غير طبيعي. نزلت الدرج وخرجت تتمشى وبالها مشغول.
حدث الاصطدام في لمح البصر. طوحت بها السيارة في الهواء ورمتها جثة هامدة وسط الطريق.