منذ أيام ونحن ننتظر اجتماع آخر
العام.. جرت العادة بأن يوزع فيه المدير علاوات تقدير على العناصر التي قامت
بأعمال متميزة خلال السنة المنصرمة.. عادة لا يذهب أحد منا خالي الوفاض، فحتى
الذين لا يحصلون على شيكات سمينة، تطيب خواطرهم بهدايا رمزية ملفوفة في ورق أنيق..
تبدأ الأمسية بسلسلة من الكلمات المملة التي يتم فيها جرد مختلف أنشطة الشركة خلال
العام.. يتحدث المدير العام، ورئيس الشؤون المالية، وممثل الموظفين، وبعض الضيوف
من العملاء والبنكيين ووجوه الدعاية المعروفين في مجال نشاط الشركة.. يلي ذلك
توزيع الشيكات والهدايا، وارتجال بعض كلمات الشكر من طرف المحظوظين الذين حصلوا
على أكبر العلاوات، ثم ينتقل الجميع إلى قاعة الأكل لتناول العشاء، وتستمر السهرة
إلى ساعة متاخرة.
هطلت أمطار غزيرة في احتفالية هذا العام، وتبلل كثير من الحاضرين، وبدت النساء أكثر تأثرًا بما حلّ بزينتهن من تلف وفوضى.. زميلي رضا الذي تعوّد على الاكتفاء بهدايا الترضية بدا مسرورًا جدًّا مما حدث، وهمس في أذني، ونبرة صوته تكاد ترقص من التشفي، بأن سهرة هذه السنة لن تكون كسابقاتها : «بدأت أمِلّ من تكرار نفس المشاهد.. سأضحك ملء شدقي هذه الليلة.. أنا متأكد من ذلك...».
تجاهلته وانصب اهتمامي على المدير العام، الذي دخل وفي إثره وفد من حاشيته المقربة.. أحدهم يمسح القطرات القليلة التي بللت بدلته، وآخر يبحث بعينيه عن مكان قريب يرمي فيه المظلة التي كان يظلله بها، وثالث يزيح الموظفين الذين تركوا أماكنهم وتقاطروا عليه يريدون مصافحته، وآخر يحاول أن يستفرد به.. انخرط رضا في السخرية من «لاعقي الأحذية» الذين يلاحقون «ابن أمسه».. هكذا يسمي مديرنا الشاب الذي تسلم مقاليد شركتنا منذ عامين، بعد تخرجه مباشرة في مدرسة الإدارة.. أغلبنا نكبره سنًّا.. وغيرة كثير منا منه وحقدهم عليه يدفعهم إلى السخرية من سنه وقلة تجربته خلف ظهره.
وقف المدير على المنصة، وتطلع الحاضرون إليه: النساء بإعجاب، فالشاب وسيم للغاية، ولديه حضور طاغٍ.. والرجال بريبة واستهجان.
بدأ خطابه كالعادة بشكر الموظفين على جدهم وكدّهم وتفانيهم.. قدم جردًا لمختلف إنجازات الشركة، ودعا رئيس الشؤون المالية لإلقاء كلمته.. نهض الرجل بتثاقل، وأخذ يتحدث عن تأثير الأزمة المالية العالمية على أرباح الشركة.. قال رضا: إن الكلام موجه لأصحاب العلاوات.. وكنت منهم.. رمقته بطرف العين، ولمحت ابتسامة خبيثة على شفتيه.. «لن تكون الشيكات سمينة هذه السنة...».. أضاف وضحك بتشفٍ.. وتملكتني رغبة في خنقه.. تلا رئيس الشؤون المالية سلسلة أرقام لم أفهم منها شيئًا.. وختم كلمته بأن دعانا جميعًا لأن نقف في صف واحد لمواجهة الأزمة.. تحدث ممثل الموظفين باختصار شديد، وبدا أن ثمة برودًا بينه وبين الإدارة.. نظرت حولي.. رضا يكركر ببلاهة، والموظفون يتهامسون وعيونهم على المنصة.. تدخل باقي الضيوف ورددوا جميعًا نفس الأسطوانة، حول التضامن الذي يجب أن نقوم به، والأوقات العصيبة التي تنتظرنا، والأسرة الواحدة التي نكونها، ومصطلحات مطاطة من نفس المعجم.. ثم حانت اللحظة التي ينتظرها الجميع، لحظة توزيع العلاوات والهدايا، وبدا المدير وهو يتسلم الكلمة ثانية مترددًا ومرتبكًا على غير عادته.
«امتحان ابن أمسه الأول»، قال رضا، «عليه أن يرمينا بالجمرة التي في جعبته، وليتحمل ردة الفعل»..
«اصمت!» أمرته بانفعال، وحولت انتباهي نحو المنصة.
الأوقات عصيبة.. كرر المدير.. والشركة عاجزة عن تقديم علاوات وهدايا هذا العام.. لكنها تكرم المتميزين بترقيات استثنائية.. جحظت الأعين وتوقفت الأنفاس.. وبدأ المدير ينادي على سعداء الحظ.. موظف المالية المكرم صار مسؤول محاسبة رئيسي، وزميله مسؤولاً أول ملحقًا بالمحاسبة، وزميله الثالث مسؤولاً منظمًا ملحقًا بالمحاسبة، وموظفة المراجعة والتوثيق أصبحت مسؤولة مكلفة بمهمة، وزميلها مسؤولاً مشرفًا على نشاط مكتبه، وموظف قسم المراسلات صار إطارًا عاليًا منسقًا لأعمال القسم...
كان المدير ينادي على كلٍّ منا ويقدم له شهادة الترقية، وعلبة كروت مطبوعة باسمه ولقب ترقيته الجديد.. ضحك رضا ملء شدقيه وهو يتابع المسرحية السوريالية، وقمت حين نودي عليّ أتسلم شهادتي وكروتي، وأصافح المدير، وأقف كما وقف غيري لتحية الحضور الذين كانوا يصفقون لي.. وكنت أبتسم...
أجل.. ابتسمت وبدوت فخورًة بلقبي الجديد: مسؤولاً إداريًّا منسقًا في قسم الاتصال.
لا أدري إن كان الجميع قد تصنع الفرحة، أو كنا مسرورين حقًّا بالألقاب التي حصلنا عليها.. كنَّا جميعًا نضحك..