هل ثمة أمر أشق من النهوض باكرًا لإعداد فطور شهي لا يتناوله أحد؟ فطائر العسل وشرائح الخبز وتورتة الفاكهة والحليب والشاي والعصائر، بقيت على الطاولة لم يمسسها أحد.. فاجأها الأولاد.. لقد قرروا أين سيقضون عطلتهم.. سيرافقون والدهم إلى مدينة الملاهي، ويمكثون معه الأسبوع كله.. وقد اتصلوا به، واتفقوا معه على كل شيء.. وهو في طريقه إليهم.. فار دمها، ورفضت أن يتم شيء وراء ظهرها.. ذكّرها ابنها الأكبر بأنها تركت لهم حرية اختيار ما سيفعلونه بعطلتهم..«وتقررون هكذا؟ بدون إخباري؟».. ذكّروها بأنهم حاولوا أن يكلّموها أكثر من مرة في المساء، ورفضت أن تستمع إليهم.
«أغلقت عليك باب المكتب، وأمرتنا بأن نتركك تعملين...»
صحيح.. سهرت طيلة الليل مع التقرير المالي..
جاء والد الصغار وأخذهم.. فوجئت حين اكتشفت بأنهم حضّروا بأنفسهم حقائبهم وغيّروا ثيابهم.. رفضوا أن يتناولوا شيئًا.. وطلب منها طليقها وهو يرافقهم إلى سيارته بأن تعود إلى بيتها.. لا معنى للحاقها بهم.. سيكون الأولاد بأمان، وسيستمتعون بكل ثانية في عطلتهم.. زوجته في انتظارهم.. لن ينقصهم شيء.
غصّة الحنق التي خنقتها، منعتها من شرب فنجان القهوة الصباحي الذي لا تتنازل عنه عادة.. تركت الأكل على الطاولة وهرعت إلى غرفتها توضب نفسها للخروج.. هناك صباحات مشؤومة لا ينفع مع المنغصات التي تتلاحق فيها شيء.. حاولت ألا تبدو متجهّمة.. اليوم تعرض المشروع على المدير.. مستقبلها على المحك.. وسمعتها المهنية أيضًا.
احتضنت التقرير وغادرت بيتها والقلق ينهشها..
هل سيكون الأولاد حقًّا بخير؟!
تلك المرأة... هي لا ترتاح لها.. قال إنها بانتظارهم.. لا تتخيّل أن مقدمهم يسرّها.. كانت تفضل أن تمضي العطلة مع طفلتها الصغيرة وزوجها.. تعرف ذلك.
مصاعد المبنى حيثُ يوجد مقرّ عملها مكتظة كالعادة.. كل منها يتسع لستة أشخاص على الأكثر.. انتظرت بعض الوقت، ثم انسلّت إلى أحدها.. ولم تكد تأخذ مكانها فيه، حتى سمعت أحدهم يصيح: «سيد بن جلون، تفضل هنا.. كوثر، اتركي مكانك للسيد المدير...»
لم تتحرك.. امتدت يد من الخلف ودفعتها.. «كوثر... ألا تسمعين؟ السيد المدير مستعجل... اخرجي»..
التفتت.. زميلها البغيض.. الموظفون الواقفون في المصعد يرمقونها بنفاد صبر.. نظرت أمامها.. سيد بن جلون، المدير.
«هيا... هيا... هل صرت صمّاء؟!»..
احمرّ وجهها وتملكها الحنق.. تحركت قدماها بشكل آلي، وخرجت من المصعد.
انتظر المدير أن تتنحى له.. لم يقترب.. بدا كما لو كان يخشى أن يتنفس الهواء الذي زفرته.
تحدث زميلها في الخلف إلى الموظفين الواقفين قربه، ووفر للمدير مكانًا في الزاوية اليمنى، ومد يده إلى زر المصعد.
تراجعت للوراء، وسمعت تعليقات الواقفين خلفها.. «لماذا لم يترك هو مكانه للمدير؟»..
«ولماذا صمتت؟ هي تستحق ما وقع لها...»..
«إنه مديرها! هل كنت ستعترض إن أخذ مديرك مكانك في المصعد؟!»..
«طبعًا! لا سلطة لأحد عليّ خارج مكان عملي...».
«هراء! أنت لست في أوروبا أو أميركا.. المدير عندنا مدير، داخل مقر العمل وخارجه»..
«هذه المسكينة... أنا لا أود أن أكون مكانها...»..
تمنّت أن تنشق الأرض وتبتلعها.. زهدي تصرّف بفظاظة.. تكره نظرات الشفقة.. تمقتها.. نالت منها ما يكفيها بعد الطلاق.
لماذا لا يهتم الناس بشؤونهم؟
وجدته بانتظارها في الأعلى.. طلب أن يرى التقرير.. «لا أريد أن يجد فيه المدير أخطاء!»..
«كان عليك إذن أن تطبعه بنفسك»..
يثير استعلاؤه جنونها.. يعملان منذ أكثر من شهر على نفس المشروع.. ويتصرّف كما لو كان هو الرئيس وهي مساعدته.. يتناسى أنها أقدم منه في الشركة وأكثر خبرة بالدراسات المالية.. غضت الطرف طويلاً عن فظاظاته.. لا تريد مشاكل في الشغل.. تكفيها همومها الشخصية.. لكنه يبالغ..
«هلا نسخته؟».. مد إليها التقرير، وتطلعت إليه بذهول.. من يظن نفسه؟!
«سيطلبنا المدير في أي لحظة، أسرعي»..
«هل جننت؟ لست سكرتيرتك.. انسخه بنفسك.. وتحدث إليَّ باحترام من فضلك.. تصرفت في المصعد بوقاحة، ولم أشأ أن أزجرك أمام الناس، ولكنك تبالغ...»..
انحلت عقدة لسانها.. لم يعد الواقف أمامها زميلها الفظ ولا مديرها المتعالي ولا حتى طليقها العصبي المتقلب.. كان خليطًا من كل هؤلاء.. رجل أناني متسلط، يرى نفسه أفضل وأنضج وأذكى من كل النساء.
قذفته بكل ما راكمه قلبها من صدمات وخيبات وحنق وآلام..
وشعرت بالراحة.