تعمل منذ خمس سنوات في المركز.. ترى الكثير من الحالات المستعصية، ولا تتوفق دائمًا في تحويل مسار المتعثرين الذين تحتك بهم.. مراهقون لا يتجاوزون العشرين.. ناقمون على المجتمع، والعالم، وعلى أنفسهم أيضًا.. متوترون، عصبيون، جاهزون لكل شيء.. وخطرون.
تتساءل أحيانًا ماذا تفعل بينهم؟!
حين عرض عليها الإشراف على المكتبة التابعة للمركز لم تصدق حظها.. عمل بهذه السرعة في مكان لا تحلم به مدرسة قضت أكثر من نصف عمرها في التنقل بين قفار البلاد المنسية؟ لم تتردد.. تريد أن ترتاح منذ زمن.. فكرت يومًا ما في تقديم طلب للحصول على تقاعد مبكر، ولكنها لم تلبث أن طردت الفكرة.. لن تقعد دون عمل.. تريد أن تستقر في مكان ما.. في إحدى المدن الكبيرة.. تريد أن تعيش في وسط متحضر.. تركب السيارة وتذهب إلى السينما وتحضر المعارض الفنية وترى الناس من كل الألوان والأعراق.
وافقت.. ووجدت نفسها في ضاحية الدار البيضاء.
بنايات المركز حديثة.. ومرافقه متعددة.. صالة سينما ومسبح ومكتبة وصالات رياضة ومشفى صغير.. كل ما يمكن أن يملأ فراغ شباب ضائع أو على حافة الضياع.. عملها في المكتبة مريح.. تشرف على إعارة الكتب، وتوثق الموجود منها، وتقدم النصائح المختلفة للقراء الذين يستشيرونها.. المترددون على المكتبة قليلون.. أغلب نزلاء المركز يفضلون قضاء وقتهم في صالات الرياضة أو قاعة السينما.
ترى أحيانًا بين الوجوه الأليفة التي تعودت على استقبالها في قاعة المطالعة الفسيحة زوارًا غير منتظمين يجلسون غالبًا حول طاولة الدوريات الصحفية، يقلبون صور الفنانات وأبطال الرياضة ويخربشون في صفحات التسلية ويتغامزون فيما بينهم.. لم تفلح في شدهم إلى المكان، رغم أنها حرصت على تزويد بعض الرفوف بنوعية من الكتب خمنت أنها قد تلقى اهتمامهم.
من بين هؤلاء لفت نظرها صبي، تحمل وجنته اليسرى ندبتين كبيرتين على شكل علامة زائد.. انتبهت إليه في الواقع قبل أن ترى وجهه.. كان يرتدي جينزًا هابطًا، ويسخر من رواد المكتبة بصوت عالٍ.. راقبته قبل أن تقصده وتطلب منه بحزم أن يكف عن إزعاج القراء.
منظر وجهه فاجأها.. وفكرت على الفور بأنه صاحب سوابق «يتعنتر» على أصحابه.. رفاقه كانوا يبلعون كلامه.. ولم تحبه.
رد عليها بوقاحة.. ورفض أن يترك المكان.. ولزم تدخل رجلي أمن ليخرج وأصحابه في إثره.
زار المكتبة بعد ذلك في فترات متباعدة.. وكان في كل مرة يثير شغبًا يزعج الحاضرين، ويربكها.. فقدت ذات مرة أعصابها وتبعته إلى الخارج مع عنصري الأمن.
«لماذا تأتي إلى المكتبة ما دمت غير مهتم بالقراءة؟» سألته بغيظ، ورد وابتسامته المستفزة لا تفارقه: «ومن قال لحضرتك إنني غير مهتم؟ هل انتقلتِ من قراءة الكتب إلى قراءة الأفكار ؟»..
ازداد غيظها، وانفلتت من بين شفتيها شتيمة حادة خجلت منها واستدارت مبتعدة وهي لا تصدق نفسها.
امرأة في الأربعينيات.. مدرسة فوق ذلك.. تنطق بكلام المتسكعين.. تمنت ألا يكون عنصرا الأمن قد سمعاها.. أتاها الفتى في اليوم التالي يسألها من أي مدينة هي.. «سمعت ما قلته أمس.. لكنتكِ ليست من هذه المنطقة»..
«انسَ ذلك.. تصرفاتك الحمقاء أخرجتني عن طوري»..
أصر الولد على سؤاله.. وحين علم من أين جاءت، انفرجت أساريره.. هو أيضًا من نفس المدينة.. لم يكن لينتبه إليها لولا الكلمات التي نطقت بها في لحظة غضبها.
تغير سلوكه معها تمامًا بعد ذلك.. صار يتردد على المكتبة، يتصفح المجلات، ويستعير أحيانًا بعض الكتب الصغيرة.. لم يصبح قارئًا نهمًا.. ولكن عدوانيته اختفت، وضجيجه قلّ.. يتحين الفرص ليأتي إليها في مكتبها، يدردش معها، ويحكي لها عن طفولته في مدينتهما الساحلية الصغيرة، حين كان له بيت، وأم، وأب، وحياة سعيدة.
«تغير كل شيء حين توفي والدي.. تركنا البيت وانتقلنا إلى بيت جدي، في الشمال.. خرجت أمي تعمل، ثم تزوجت، وتركتني عند جدي.. لم أرها منذ ذلك.. بدأت المشاكل مع أخوالي، وتركت البيت، وتعقدت كل أموري...».
مخدرات وعنف وسرقة.. أصبح الفتى مشروع مجرم كبير.
استمعت إليه.. حصل على ندبتيه في عراك ليلي.. ليس مسرورًا من نفسه، ولا راضيًا عن حياته.. لا يدري ماذا سيفعل في المستقبل.. لا يعلم حتى إن كان لديه مستقبل.
لا تعرف كيف أصبح ولدها الذي لم تنجبه.. بدأت تفكر فيه، وتبحث عن طريقة تنقذه بها من نفسه، ومن العالم الجائر الذي لم يكترث به.