يرتبط عندي الإحساس بأجواء العيد، وبنكهته، بمرحلة الطفولة، سواء تعلّق الأمر بعيد الأضحى، الذي نسميه نحن المغاربة «العيد الكبير»، أو بغيره من الأعياد الأخرى، وخصوصًا عيد الفطر «العيد الصغير»، أي بزمن كنت أنعم فيه بدفء الأسرة، وبرعاية الأبوين، قبل أن ينتقلا إلى «دار الحق»، لنبقى نحن في «دار الباطل»، وأيضًا في وقت كنت فيه، ربما دون أن أدري، في أمسِّ الحاجة إلى مزيد من عطف الأبوين وحنانهما.. فبوفاتهما تغير الإحساس عندي بتلك النكهة الخاصة التي كانت للأعياد في مرحلة الطفولة.
ثاني إحساس تركه العيد في أيام الطفولة، هو ذاك المرتبط بفضاء القرية خصوصًا، فأجواء العيد في القرية تختلف كثيرًا عن أجواء العيد في المدينة، من ناحية العادات والطقوس، بما فيها طقوس الملبس والمأكل، وطقوس اللعب ووسائله، فالعيد بالنسبة لي، كان يعني آنذاك كسوة جديدة من الرأس إلى القدمين، كما يُقال عادة، مع ما يدخل في هذه العملية من حرية غير مشروطة، في اختيار الألبسة، وإن كانت فرص الاختيار في القرية محدودة جدًّا، مقارنة مع المدينة، غير أن هذه الأمور جميعها، لم نكن نحن لندركها ونعيها جيدًا، بحكم تلك الغربة التي كانت تعيشها القرية عن المدينة.
لقد كانت لحظة اقتناء الملابس لي ولبقية إخوتي، حسب ما أتذكره، مطبوعة بالفتنة والهرولة، تجد الوالد الذي يشرف عادة على عملية الشراء، في حالة فتنة ودوخة، فهذا أخي يعجبه شراء هذا القميص، والآخر يرغب في اقتناء هذا الشكل من السراويل، أو هذه التقليعة من المعاطف.. غير أن كل ذلك الهرج والارتباك، سرعان ما يتحوّل إلى متعة ولذة في المساء، أي حين كان يختلي كلٌّ واحد منا بلوازمه، فتجده يتحسس، بأناة ولطف، ما اقتناه من ألبسة وأحذية جديدة.
في تلك الأيام، كنت لا أدرك جيدًا، بالنظر إلى صغر سنّي، تلك الفرحة العجيبة التي كان يشاركنا فيها الأب بقلبه، حيثُ كان ابتهاجه بحلول العيد يتجلّى في فرح أبنائه، ففقداني لأمي في وقت مبكر جدًّا، لا يمكنني الآن من تذكر واستيعاب ما كان يكتنفها في تلك اللحظات، من مشاعر الأمومة والبهجة.
في صباح يوم عيد الفطر، وبعد أن نكون قد رتّبنا ملابسنا الجديدة على أجسادنا النظيفة، كنا نمتطي ما يتوفّر لدى عائلة كلّ طفل منا من دواب، فنختار منْ يرافقنا من الأصدقاء، بركوبة من الدرجة الثانية، أي في المكان الخلفي على ظهر المطيّة، في هذا الوقت أيضًا، تكون النساء والبنات منهمكات في إعداد مستلزمات وجبة الفطور الثانية، ففي القرية، كان الفطور آنذاك، يتوزع على فترتين، وعلى وجبتين، الأولى مبكرة وخفيفة، يتخللها شرب القهوة بالحليب وتناول بعض الحلويات، والثانية متنوعة وسمينة، يحضر فيها الشاي وأنواع من الرغيف المدهون بالزيت والعسل والزبدة، والبيض البلدي واللوز المقلي، وبعض المعجّنات ومأكولات أخرى، منها ما كان يستلزم طبخه الليل كله.
لكن ألذّ أكلة يوم العيد، هي نوع خاص من الإسفنج، كانت والدتي تتفنّن في إعداده وطهوه.
ولم يحصل إلى اليوم أن صادفت بيتًا تُعدّ ربَّته مثل إسفنج والدتي.
أما نحن الأطفال، فكنا نتتبع خطوات المصلين، في صعودهم إلى مصلى غير بعيد، عبارة عن هضبة، يؤمها أهل البلدة لأداء صلاة العيد، ولاتزال صورة أبي بلباسه التقليدي الأنيق تعبر أمام عينيّ، في كل لحظة أستعيد فيها تلك الذكريات الجميلة، ولايزال صوته أيضًا يصلني صداه إلى الآن، وهو يُكرر بصوته المميز وبطريقته الخاصة، رفقة باقي المصلين: «الله أكبر.. الله أكبر..».
وفي صبيحة العيد، كنا ندخل نحن الإخوة في تنافس حميمي، حيثُ يحصل أن يكلفنا الأب، في إطار إيتائه الزكاة زيتًا، بحمل قنينات الزيت إلى بعض المعوزين وغيرهم، فلا يبقى بيت في الدوار إلا ووصله نصيبه من زيت الزيتون.. كانت هذه العملية تخلق لدينا نحن الصغار نشوة خاصة، إذْ كان كل واحد منا يعمل على زيارة أقصى عدد ممكن من البيوت لتسليم أهلها قنينات الزيت، ومن ثم الظفر بحلاوة السخرة، ريالات كانت، أو بيضًا، أو قطعة حلوى، أو لعبة، أو حتى قبلة من ربة هذا البيت أو ذاك.
أما في الفترة المسائية، فكان حيزٌّ منها يخصص لتبادل الزيارات بين الأقارب، حيثُ كانت تتقوى غنائمنا النقدية من الأقرباء، فنضيفها إلى تلك التي نكون قد حصلنا عليها في صبيحة يوم العيد، أما الفترة التي كانت تفصل النهار عن سقوط الظلام، فكانت مشحونة -عندنا نحن الأطفال- بالشيْطنة المصحوبة بنوع من «الشغب الطفولي»، هذا الذي لم أجد له أي تفسير إلى الآن، وقد أصبحت أرى الأشياء عن بعد وبمنظور مغاير.
تلك مجرد عادات ولّت الآن، كما ولّت مع تبدل الزمن تلك المشاعر الجميلة، وتلك النكهة الخاصة التي كانت للعيد في القرية، أي قبل أن يتملكنا الإحساس بتغيّر العالم من حولنا، وقد تغيّر أيضًا في أعيننا.