رجل غير مرئي

نزلت من سيارة الأجرة بعجلة، وحثثت الخطى نحو مدخل السوبر ماركت. لدي لائحة مشتريات طويلة، والوقت لم يكن مناسبا  لأخذ راحتي في المشي. تأخرت كالعادة في المكتب، وأضعت أكثر من ساعتين في الذهاب إلى البيت، واكتشاف لائحة الحاجيات اللازمة  التي نسي زوجي كعادته شراءها، والخروج من جديد للقيام بهذه المهمة. لم يكن في الثلاجة أكل، ولم أجرؤ على المخاطرة بتأجيل المشوار ليوم آخر خشية ألا أجد الوقت اللازم لذلك.

صار يصعب عليّ الاعتماد على رفيق دربي. عمله يشغله تماما، وأوقات فسحه النادرة تملؤها دائما أمور طارئة لا ينبئني عنها أبدا.

ألقيت نظرة خاطفة على ساعتي، وتأكد لي أن الوقت تأخر فعلا. الخامسة والنصف. سأكون محظوظة إن أنهيت مشترياتي في ساعة. المركز التجاري يبدو مكتظا، والزحام على سيارات الأجرة مخيف.

هرعت بكعبي العالي الذي نسيت تغييره إلى درجات المدخل الزجاجي الزلقة. برد المساء لافح، والهواء المثقل بدخان عوادم السيارات يكبس أنفاسي، ويزيد من ضيقي وتبرمي. لو كان زوجي يفكر في شيء غير نفسه وعمله لأراحني من هذا المشوار المتعب. تأففت بصوت عال وأنا أحاول أن أحافظ على توازني فوق الدرجات، وتوقف الشخص الذي يسبقني، وأدار وجهه قليلا، ولمعت أسنانه البيضاء الناصعة أسفل سحنته القمحية، وخطر لي أنه يبتسم، وزاد ذلك من امتعاضي.

 لكأنه قرأ ما يجول بخاطري. كيف سمح لنفسه بذلك ؟

نظرة ثانية إليه نبهتني إلى النظارة السوداء فوق عينيه، والعصا الخشبية الرفيعة في يده.

كان أعمى.

تلاشى غضبي في لمح البصر، وغمرني شعور عارم بالشفقة والرثاء. بقيت واقفة مكاني، وانطلق هو ببطء يتحسس بعصاه الطريق، ويدير وجهه هنا وهناك وكأنه يتنصت لما يجول في ذهن المارين قربه. معقول ذلك ؟ سألت نفسي بدهشة! وجاوبتها في نفس اللحظة. ولِمَ لا؟ ألا يقولون: إن فقدان حاسة ما يقوّي عمل غيرها من الحواس، ويزيد من دقته وفعاليته؟

هبت من حولي نسمات محملة بعطر أنثوي ثقيل، ومرت سيدة فارعة الطول ترتدي فستانا لاصقا، وحذاء يفوق حذائي علوا ورفاعة. لمست حقيبة يدها الصغيرة يدي، وخدشتني برفق، ولم أحفل بذلك. كنت أرمق بذهول خطواتها السريعة الراقصة على الدرجات الزلقة. نادت شخصا سبقها إلى الداخل، ورفعت وهي تسرع خلفه يدها البضة المزينة بخاتم ثمين، ودفعت بنفاد صبر شعرها الطويل الذي انسدل بنعومة حول وجهها، وعلى كتفيها وظهرها. نادت الشخص مجددا وهي تسرع أكثر، وصدمت بكوعها الرجل الأعمى الذي فوجئ بالضربة، وترنح يمينا وشمالا، وكاد يسقط أرضا لو لم تسعفه عصاه.

لم تلتفت إليه. مضت في طريقها. وسمعته يقول بصوت مرتبك خلفها: «آسف..».

تملكني الغضب. مشيت خلف الرجل بحنق. البوابة الزجاجية العريضة كانت مكتظة بالداخلين والخارجين. اضطرت المرأة الفارعة إلى الوقوف،  ووقف الأعمى على بعد خطوات منها، ووقفت خلفه.

التفتت عدة مرات حولها، ولم يبد أنها رأته، أو رأتني، أو رأت أحدا من المحيطين بها رغم أن أنظارنا كانت مصوبة نحوها.

 لبسها المثير وقامتها الممشوقة وملامحها الجميلة كانت لافتة للغاية.

بدأنا ندلف للداخل، وصرخت المرأة وهي تدفع شخصا قريبا منها : «ابتعد، حيوان!».

ابتسم الرجل الذي سبته بتهكم، ونظر إليها من فوق لتحت، ومر وضحكته تجلجل خلفه. وشوش البعض قربنا، وتراجعت المرأة بضع خطوات حتى صارت وراءنا.

«متوحش» رددت وهي تمسح ذراعها، وكأنها تزيل قذارة علقت بها، وظل الرجل يضحك وهو يبتعد.

وصل دورنا لنجتاز البوابة، وتنحى الأعمى الذي كان يسبقني بشهامة، وهمس وأسنانه البيضاء ضاحكة أسفل وجهه.

« سيدتي...».

لفحني العطر الثقيل، ومرت المرأة الفارعة من أمامي واجتازت البوابة وذقنها مرفوعة للسماء.

ذهلت من وقاحتها، وأمسكت نفسي كيلا ألحقها وأسمعها كلمتين في ضرورة احترام الدور والتزام آداب الشكر والاعتذار.

كرر الأعمى الذي بقي متنحيا على جنب أمامي: «سيدتي... بعدك».

نظرت إليه، وشد صدري ألم عميق.

لم يكن يضحك، ولا يبتسم. وجهه المغطى بندوب عميقة يكشف هول الحادث الذي شوّه فمه وأخذ ربما بصره أيضا. شفتاه فقدتا جزءا كبيرا من حجمهما، ولم تعودا قادرتين على الالتقاء. وجنتاه بهما حفر غائرة، وأحد حاجبيه يبدو مقطعا بشكل منفر فوق نظارته السوداء السميكة.

«بعدك سيدتي...»، قال للمرة الثالثة، وشكرته بصوت عالٍ، ومضيت، وفي حلقي غصة