عزيزتي: اطّلعت على روايتك، وقد تكرّمتِ بإهدائها إليّ، لأقرأها، وربما لكي أُبدي رأيي فيها.
وها أنا أخاطبك من خلال الكلمة التي هي، وتبقى، جسرَ التواصل بيننا.
يا سيدتي: كنتُ، دائماً، ولا أزال أعتبر الكتابة مسؤولية كبرى؛ فالكلمة هي سجلٌّ لأفكار تظلُّ في الخباء، الى أن نقرّر، في لحظة ما، أن نُخرجها الى النور، كي يشاركنا إياها الآخرون، القرّاء في معظم الأوقات؛ ولذا نهتمُّ بهذا «الإخراج» إذ نُريدها أن تبرزَ في أجمل حلّة، ولا تشوبُها شائبة. وهذا ما يجعلنا نُنفق وقتاً طويلاً في إعدادها، بكل المحبّة والإخلاص؛ ثم نُقدّمها باحترام وخشية؛ ونجلس في الصفوف الخلفية، نراقبها بصمت، كي نعرف الى أين تبلغ بنا، والى أين توصلنا تلك الكلمة.
وقد وصلتْني كلمتُك من خلال رواية لا أشكّ بأنكِ انفقتِ في إعدادها الساعات، بل الأيام والشهور. وضمّنتِها أفضلَ ما لديك من صُوَر وأفكار؛ إذ شئتِها جسرَ عبور الى الآخر، العالم والإنسان. ولأنّك أقدمتِ على إعدادها بتلك الحماسة والحرارة، الى درجة أنك لم تتوقّفي لتسألي نفسك: هل تستحقُ روايتي، أن ترتديَ حلّة تدشينها، فتُنشر في كتاب يوزّع على القرّاء، في كل صوب ومكان.
وهنا، إسمحي لي أن أقدّم إليكِ باقة ملاحظات، جنيتُها من خلال تجربتي الشخصية في الكتابة، آملة ان تُسعفك في المستقبل، وعندما تنوين اتخاذ الخطوة التالية في التأليف.
تبدو لنا الكتابة عملية سهلة حين نُقبل عليها، مبتدئين. ولكن ما إن تتقدّم بنا الخطى والتجارب، حتى يخالجنا نوع من الرعب، مشوبٌ بالورع، إذ نكتشف ان ما حسبناه سهلاً، هو من أخطر الأعمال. فنحن نفتح أبواب تلك السراديب المعتمة، والسرّية في الكيان، ونسمح لأفكار كانت كامنة، وصامتة، نسمح لها ان تخرج الى النور، تتنشّق الهواء، وتتحرّر من قيودها. وفي رحلتها الجديدة هذه، تبدأ باكتشاف السبل التي تأمل ان تقودها الى بلوغ غاياتها.
وما هي تلك الغايات؟
وماذا تكون؟
إنها حاجتُنا، نحن البشر الى التواصل مع الآخر، وليس القريب منا، في معظم الأحوال، بل ذلك الغريب الذي نجهل صورته ومكان إقامته. وكلما تباعد، يزداد شعورُنا بالنصر وتحقيق الأحلام الطامحة.
فإلى جانب إبلاغ الرسالة، نريد لتلك الكلمات، ان تبقى مرايا، نتأمّل فيها أنفسنا وأفعالنا. وفيما نحن قابعون في الظلمة، ونخطّ أحرفاً من نور، نُبقي أعيننا مفتوحة على تلك المرايا التي تردّ إلينا صوَراً نبعثها، ثم نقف في صف الإنتظار.
وأحياناً، تطالعنا المرايا بالكلمات، مقلوبة، مكشّرة، ساخطة، غاضبة، أو ضاحكة وساخرة؛ إذ لا يكون الشعور دائماً مجلّلاً بالاكتفاء والنصر من تحقيق غاية المُنى.
ولهذا كله، وسواه من أسباب، كان من واجبنا، كتّاباً ومبدعين، ان لا نفلت تلك الفراشات من أيدينا، أو من أقفاصها، قبل أن يتمّ نضج الجناحين، واكتمال الكيان. ومن هنا أدخل مباشرة الى الحوار معك في ماهية الكتابة عامة؛ والرواية بصورة خاصة.
وإنها تحتاج في إعدادها الى الموهبة في القَصّ كما في استحضار مادة التوليف. ومثلما يكون للبناء المَنْوي تشييده مخطّطٌ هندسي، ومعماريون يضعون أسس العمارة؛ كذلك تحتاج الرواية في كتابتها الى ترسيخ بعض الأسس من:
* نضج لغة، كي تقوى على التعبير الصحيح والمريح، وتكون ملائمة للنصّ بتاريخه وشخصياته.
* نضج أسلوب. ويكون قريباً منا، وخاصاً بنا، ليأتي صنْوَ أفكارنا والكيان.
* وبعد الأسلوب واللغة تجيء الخبرة والتجربة. وفي يقيني ان الروائي يكتب تجربته؛ ما خبره وعاشه في معظم الأوقات، حتى لو كانت التجربة عبرت خياله لا الحياة الواقعية.
* ومن واجبات كل كاتب، بعدما يفرغ من عمله، ان يتلفّت وراءه ليقيس خطواته بخطى سواه، ممّن سبقوه، ويرى إذا كان عمله مُستحقاً أن يُنشر.
* ولا يعتمد على خبرته ورأيه، وحسب، بل يحاول استشارة الغير، من نقّاد مخلصين أو قرّاء، ليرى كيف يبدو عمله في مرايا الغير.
هذه بعض ملاحظات وجدتُني بحاجة الى إبدائها، وتبليغك إياها، كي لا تتكرّر في أعمال مقبلة، أخطاء وردت في تلك الرواية الأولى هذه ومنها:
* الإعتقاد بأن إتقان التعبير بلغة صحيحة، يكفي، وهذا خطأ، لأن اللغة ليست سوى أداة، ويبقى استخدامها وتطويعها في يدي كاتبها.
* من المهم أن يُبقي الكاتب إصبعه على نبض الحياة، كما على نبض العصر، فلا يغمس قلمه في مياه آسنة من كثرة الإستعمال. ولا يلجأ إلى لغة مهلهلة أو ثقيلة، بل يعتمد النقلة الخاطفة، واذا لزم التلميح أكثر من الإستفاضة.
* اختيار الأسلوب مهمّ، لأن لكل كاتب أسلوبه، وشخصيته التي بها يتميّز.
وهناك دروس كثيرة لا يتسع المجال الى سردها، ونتعلّمها من خلال الخبرة والمراس.
وأتمنّى لك، في روايتك التالية، نقلةً جديدة، وتتجاوزين فيها المألوف والتقليدي المعروف. وعليك ألف سلام.
للتفاعل مع الكاتبة [email protected]