القصصُ الخياليةُ التي تُحكى للأطفال، قبل النوم، هي قصصٌ شعبية أكثر قدماً مما كان يُعتقد في السابق.
هذا ما تؤكّده بحوثٌ أجريت حديثاً، واعتمد فيها أصحابُها الباحثون البريطانيون، تقنيات يستخدمُها متخصِّصون في علم الأحياء، لكشفِ تسلسُلِ شجرةِ الحياة. وقد اختاروا، على سبيل المثال، قصّة "ليلى والذئب". التي تُروى بأشكالٍ مختلفة.
***
وكانت لي حصّةٌ في ولوجِ ذلك الباب عندما كتبتُ قصّةً تحت هذا العنوان، وإنما موجّهة للكبار.
وأجريتُ في حينه بحثاً تبيّنَ لي، من خلاله، بأن لهذه القصّة خمسمائة وجه. وتختلف باختلاف الشعوب والحضارات التي تَداولتْها. ففي حين ان النسخةَ الأوروبية تَروي بأن الذئب تنكّرَ بهيئةِ جدّةِ ليلى، فان الروايةَ الصينية تستبدلُ الذئب بنمر. كما ان القصّةَ الإيرانيةَ تُحلُّ مكانَ ليلى فتىً، لأن ثقافةَ البلد لا تسمحُ بتجوّلِ فتاةٍ وحدَها في الغابة.
***
وفيما كان يُعتقدُ ان الكاتبَ الفرنسي شارل بيرلو كان أوّلَ من كتبَ القصّة في القرن السابع عشر؛ فقد اكتشفَ الباحثُ جايمي طهراني، الذي تعمّقَ في بحثه حول أصول الحكاية، ان الروايةَ في نُسخِها المتعدِّدة تتقاسمُ سلفاً مشتركاً يعود تاريخه الى أكثر من 2600 عام.
***
لكن القصّةَ تتغيّرُ مع مرورِ الوقت، وتتحوّلُ من بلدٍ إلى بلد. وتتآلفُ مع تنوّعِ الحضارات. أي أنها مثلُ الكائن البيولوجي الحيّ، خاضعة للمخيَّلة.
***
وقد وجد الباحثون ان لهذه القصّةَ بالذات، ما يشبهُها في شتّى القارات، من افريقيا الى آسيا فضلاً عن أوروبا.
***
وقد لفتني هذا الأمر، لأني شخصياً كنت بين الذين استخدموا هذه القصّة حين تَوسَّلتُها في الكتابةِ للكبار، إذ وجدتُها غنيّة بإشاراتٍ تُحوِّلها من البساطةِ لتجعلها قصّةً مثقلةً بالعقد والرموز.
فالأمّ التي تُرنّم لابنتِها قبل النوم، تتعمّدُ أن تغرسَ وصاياها بين الكلمة والنغم؛ مثلما تغرس خوفَها من ضَلال الفتاة التي تسيرُ وحيدةً في الغابة فتردّد: "والذئاب تختبئُ عادةً في الغابات... وتفاجئكِ عند كلّ منعطف. أحياناً يَرتدي الذئبُ وجهَ ثعلب، وأحياناً وجهَ صديق. يا ليلى، لا يغرّنّكِ لطفُه، وعليك أن تعرفيه فوراً وتحيدي من طريقه".
***
لكن ليلى تمضي في طريقها. قُبّعتها الحمراء تتوّج رأسَها. والمعطف، من اللون ذاته، يلفُّ جسدها. وقد علّقتْ في كوعِها سلّةً ممتلئة بالكعك الذي تحملهُ هديّةً الى جدّتها المقيمة في كوخٍ عند طرفِ الغابة.
***
في قصّتي، لا تُبالي ليلى بكلام الوالدة، إذ انّها، الى شوقِها لرؤية وجه جدّتها، كانت تائقةً الى القيامِ وحدَها بمغامرةِ اكتشافِ العالم الذي تجهله.
***
ولكنّ الطريقَ يمرّ وسطَ الغابة. فالرواية لا تُتيح لها بأن تسلكَ طريقاً سواه. وتظلُّ وصايا أمِّها تتردّدُ في ضميرها: كوني يقظة، يا ليلى، واحذري الذئب. وهو يأتي من كل الجهات، كما يرتدي شتّى الوجوه.
***
لكن ليلى، وقد خرجت من حمى القيود، تتساءلُ عمّا تقولهُ والدتُها، وكيف تخافُ عليها؛ وهي تقفزُ الآن حرّةً، تحادثُ العصافير وأزهارَ الغابة؛ وبعضُها يرجوها كي تحملَهُ معها عَبْرَ رحلةِ الإنعتاقِ تلك.
***
ولكن، وقبل أن تبلغَ دارَ جدّتها، تسمعُ وقعَ قدمين؛ وتشعرُ بأن هناك من يلاحقها. وحين تلتفت الى الوراء، تُبصرُ مخلوقاً عجيباً، لم تقعْ عينُها على شبيهٍ له من قبل؛ فراحت ترتعش خوفاً. وعندما فتحتْ فمَها لتسألَهُ مَن يكون، اقتربَ منها وسألها عن اسمها. وكان السؤال بدءَ حوار بينهما انتهى بمراجعةِ وصايا أمِّها، وتساؤلها إذا ما كان هذا الذئب الذي حذّرتْها منه. ثم لا تلبث ان تخرج من التساؤل الصامت الى المواجهة فتقول:
- أعرفُكَ مَنْ تكون.
أنت الذئب. أمي حدثتني عنك. ويصبحُ كلامُها فاتحةَ حوارٍ طويل يتمُّ خلالَهُ التعارف.
***
وتنتهي القصة (قصتي) بالمصالحة، التي تُعبِّرُ عنها الفقرةُ التالية: سارتْ الى جانبه، ترشفُ أذناها كلامَهُ العذب، وحكاياتِهِ النادرة. ونسيتْ كلامَ أمّها. بل راحتْ تساوِرُها الشكوك، وهي تتذكّر ان أمَّها خَدَعتها، حين غرست في صدرها خوفاً لا مبرّر له.
وكيف أخافتْها، وفي الغابة مثل هذا المخلوق اللطيف حتى الإنْكسار، الدافئ الهمس، الرقيق اللمسات؛ والحاضر لحمايتها وردّ الخطر عنها؟... وكيف تجهلُ أمُّها تلكَ الأمورَ عنه؟
***
وقبل ان تبلغ ليلى دار جدّتها، كانت قد أعلنت الثورة على أمِّها وتعاليمها العتيقة، وارتمتْ في دائرةٍ رسمها الذئبُ حولَها، ثم أحاطَها بسياجٍ كثيف. ولم تعدْ تبصرُ من الوجودِ سواه. وراح يتحوّلُ في عينيها الى رسولٍ للخير والمحبةِ والجمال.