سميرة تغيّر العالم

هي صديقة أختي الصغرى.. شابة في الثانية والعشرين.. جميلة، متفوقة، وطموحة.. أتت بها منار إلى البيت.. وسررنا كثيرًا بالتعرف عليها.. أول ما شد انتباهنا حين جالسناها، جرأتها المذهلة وثقتها الزائدة في نفسها...

«سأحصل على الإجازة هذا العام، وأرحل إلى أميركا.. سأتعلم الكتابة هناك، وسأعكف على مؤلفي الأول.. أفكر في رواية بوليسية.. المشكل أن الناس هنا لا يهتمون بهذا الجنس الأدبي.. شعبنا لا يقرأ.. لن أصبح أبدًا قلمًا مشهورًا بفضل أبناء وطني.. أفكر في ترجمة كل ما أكتب.. وقد أغامر باختيار لغة أخرى.. لا أدري..».

كلامها حبس أنفاسنا.. حاول أخي أن يسخر منها.. تتعلم الكتابة؟ وماذا عن الموهبة؟ التأليف ليس عملاً ميكانيكيًّا يلقن عبر بضعة دروس.

هي تعرف ذلك.. ردت وعيناها تلمعان بشدة.. لديها كل الأدوات المطلوبة.. تكتب جيدًا.. خيالها واسع.. وأفكارها مبتكرة.. لغتها سلسة.. لا تنقصها سوى بعض التقنيات التي تستطيع تدريب نفسها عليها، هنا في المغرب.. ولكنها تريد أن تربح الوقت...

سميرة في السنة الرابعة في كلية الآداب.. تدرس اللغة الفرنسية، وتعشق العربية، وتتحدث أغلب الوقت بالإنجليزية التي أجادتها في وقت قصير.. منار أخبرتنا بأن هذه البنت تحفة.. ولم تبالغ...

سميرة تشارك في كل أنشطة الكلية الثقافية، تمثل في المسرح، وتتدخل في الندوات، وتنشط معارض الكتب، وتشارك في الرحلات، وتغني، وترقص، وتبدع شعرًا ونثرًا.. درست سنواتها الجامعية السابقة في مراكش، وقدمت مع أسرتها في بداية العام إلى الرباط، وكسبت شعبية كبيرة حققها لها نشاطها الزائد، وجرأتها الفريدة، ومواهبها الكثيرة، وطموحها المتدفق.

لن ترضى بأقل من العلامة الأولى في كل المواد.. أخبرت أختي.. لا يمكن أن تحصل على أقل من ذلك.. فهي تحب ما تدرسه، وتهمها شهادتها بقدر ما يهمها صقل الموهبة التي تؤمن بأنها تتفرد بها.

 منار انبهرت بها، وبدأت تتباهى بصداقتها، وتردد كالببغاء الكثير من أفكارها..

«لدي حلم سأحققه لأنني أريد ذلك، وأستطيع ذلك.. سأحصل على منحة التفوق، وأطير إلى أميركا.. وسأكتب.. لديّ الكثير من الأفكار المثيرة..».

أهل سميرة غير ميسورين.. والدها موظف صغير، سنواته الباقية في الخدمة معدودة.. إخوتها يدرسون.. وأمها تعاني من مرض السكري.. آمال الأسرة معقودة عليها للمشاركة في حمل العبء.. يفترض بها أن تبحث عن عمل أول ما تتخرج، وتجد عريسًا ميسورًا يستند أهلها عليه.. جمالها اللافت كفيل بفتح الكثير من الأبواب أمامها..

«لن أتخلى أبدًا عن حلمي.. تردد سميرة كلما أثير موضوع حالتها الأسرية أمامها.. لن تضحي بشيء.. لن يموت أهلها من الجوع، ولن تنقلب الدنيا إن هي غيرت ترتيب الأولويات التي فرضها المجتمع عليها».

«لا حاجة بي لوظيفة حكومية.. سأكون مبدعة حرة.. ولا رغبة لي في الارتباط بأحد في الوقت الحالي.. كلام الناس لا يهمني.. ليقولوا ما يريدون»..

حصلت سميرة على منحتها.. لكن الجامعة أصرت على بعثها إلى فرنسا.. حاولنا إقناعها بقبول ذلك.. بإمكانها أن تجد ورشات كتابة هناك.. لكنها لم ترضخ.. ولم تستسلم لإلحاح والدها لقبول وظيفة أكاديمية عرضتها الجامعة عليها في حالة ما إذا تنازلت عن المنحة.. قالت إنها لن تغير شيئًا من مشاريعها.. وقصدت السفارة الأميركية..

لم تفلح طبعًا في الحصول على شيء..

بقيت دون عمل أزيد من عامين..

 تسجلت منار في أحد معاهد المعلمين، وتخرجت، وبدأت تستعد للرحيل إلى مكان تعيينها الأول في الجنوب.. وفي خضم انشغالنا بسفرها القريب، قدمت سميرة وفي يدها ورقة السعد التي كانت تنتظرها منذ تخرجها.. اختيرت ضمن قرعة الهجرة السنوية التي تنظمها السلطات الأميركية، ودبرت على كل ما يلزمها للرحيل إلى أرض الأحلام.

«والداي غاضبان وإخوتي متذمرون.. قالت لنا: رددت عريسًا وعدهم بمنزل وسيارة.. وخنقت نفسي بالديون.. لا أصدق كيف وثق فيّ من قصدتهم.. لكنني لن أخيبهم..».

رحلت بعد أن وعدتنا بأن تبعث إلينا نسخًا موقعة من أولى رواياتها.

أختي الآن على وشك الزواج من أحد زملائها.. نسينا سميرة.. مضت خمس سنوات، وربما أكثر، على رحيلها..

 لكنها لم تنسنا...

نسخ روايتها الثلاث وصلتنا بضعة أيام قبل العرس.. الرواية مكتوبة بالإنجليزية، وموقعة بخط عربي أنيق..

تحقق حلمها..