طمأنينة


لم يسبق لي أن رأيتها من قبل، افترشت ناصية الشارع، ووضعت أمامها سلة ورد حمراء بدأت تذبل، ذكرتني ربطة رأسها المعقودة بعجلة على لحاف أزرق لفها تمامًا بجدتي، كانت تشدّ جبينها بقطعة قماش مماثلة كلما داهمتها آلام الشقيقة، شعرت بحنين جارف، ووقفت أتأملها وأتذكر أمي الحاجة رحمها الله، مضى أكثر من عقدين على وفاتها، ولا زالت خطواتها الوئيدة في باحة البيت القديم ترن في أذني، تتفقد أشغال المطبخ، تتوضأ، تنهرنا نحن الصغار، وتستقبل الزوار بحفاوة قَلّ مثيلُها هذه الأيام،

 كانت المرأة تتطلع حولها بشرود، لا يتوقف أحد قربها، لا تقول شيئًا، لا تكترث بما تقذفه في وجهها عوادم السيارات وأقدام المارة من قذارات وأغبرة، اقتربت، ولم أجد فيها شبهًا بجدتي، وجهها نحيل وشاحب، وجسدها ضئيل، يكاد يضيع وسط اللحاف الواسع الذي انتفخ بنسمات العصر الباردة، طلبت باقة ورد، عزلت بضع سيقان، ومدتها إليَّ بأشواكها، نقدتُها أجرها، وفكرت في أن أزيدها درهمين أو ثلاثةً، ولكنني لم أجرؤ، لم يبارحني الشعور بأنني أقف في حضرة أمي الحاجة، ربطة رأسها العتيقة لم تعد جارية، وددت لو استطعت أن أجلس قربها، وأحدثها عن المرأة التي تكفّلت بي وبأمي وإخوتي بعد وفاة والدنا، سيدة لا تشبهها، عظيمة البنية، قوية الشخصية، تنبعث منها طمأنينة كتلك التي تنبعث الآن من البائعة، كنا نظنها تبالغ، ككل العجائز، عندما تشكو صباح مساء من الشقيقة، وتأمر أمنا بنقع الأعشاب، وخلط التوابل، وتبخير البيت بفظاعات لا يتحملها غيرها،

 لم نكن نعلم أن الداء اللعين أصاب دماغها،تنهدت وأنا أبتعد،

 لم أنتبه إلى ما في يدي إلا عندما اقتربت من العمارة، عرجت على أحد الدكاكين، واشتريت قطعة ورق لففت فيها الباقة الذابلة، نظرت إليَّ زوجتي بريبة حين قدمت إليها الورد، وهزت حاجبيها مستفهمة، «تفضّلي» همست وأنا أتطلع خلفها إلى صورة أمي الحاجة، لا، البائعة لا تشبهها، لكن ثمة شيء،

وما المناسبة؟ سألت بتشكك، وابتسمت وأنا أخبرها بأنني لا أحتاج للبحث عن مناسبة لتقديم هدية لشريكة عمري،

هدية؟ احتجّت ولوّحت بالباقة بازدراء، أتسمي حزمة الأشواك هذه هدية؟ هل صرت أعمى؟ أنتم الرجال لا تخجلون!

دلفت إلى الداخل، وفوجئت بأخت زوجتي تتكئ على إطار باب المطبخ، وتتابع كلامنا باهتمام، أرأيت؟ بادرتها زوجتي وهي تريها الباقة، ألم أقل لك إنهم جميعًا خبثاء؟

قلبت أخت زوجتي شفتيها بازدراء، وانتبهت إلى أن عينيها متورمتان، ولونها مخطوف، ما الأمر؟ سألتها، وردت زوجتي بحنق، تريد أن تعرف ما يحدث؟ خطيبها بعث لها إيميلاً يفسخ فيه الخِطبة، سيادته اكتشف فجأة أنهما لا يناسبان بعضهما، ولم ير داعيًا للقائها لمناقشة الأمر معها، أنا متأكدة أن في الأمر امرأة ثانية!

فتحت فمي وأغلقته في نفس اللحظة، لا فائدة من مناقشة زوجتي، ترى الشر في كل مكان، وتتوقع الأسوأ دائمًا، مني ومن بني جنسي، غيرت ثيابي، وجلست في الشرفة، لو تتفضل وتأتيني بكأس شاي!

لم يطل انتظاري، جلست قبالتي، وانطلقت تستنطقني بعناد، ماذا فعلت اليوم؟ ما الذنب الذي اقترفته واستوجب إحضار باقة الورد غير الاعتيادية هذه؟ لم تصدّق حكاية المرأة التي ذكّرتني بجدتي، ولم تترك الفرصة تمر دون أن تنتقد إصراري على تعليق صورتها في صدر غرفة الجلوس، «شكلها منفر ولباسها مضحك»،  لو كانت أمي الحاجة حية، وقت تعرفي إلى شريكة حياتي، لما تركتني أتزوجها، أعصاب هذه المرأة فائرة على الدوام، لا شيء يرضيها، ولا أحد يحوز على ثقتها، مررت في أثناء خروجي إلى المقهى أمام ناصية الشارع، حيثُ كانت تجلس بائعة الورد، لم تكن هناك، رفعت ياقة معطفي، وحثثت الخطى نحو موقف الحافلة، فكرت في أن أقصد أبعد مكان عن البيت، جو التوتر والحنق السائد فيه لا يناسبني، زوجتي ترغي وتزبد، وتتوعد الخطيب -النافذ بجلده- بالويل والثبور، وأختها تبكي بقهر حينًا، وتقلّب حينًا آخر خططًا هوليوودية غير معقولة، للانتقام لكرامتها المهدرة، ورد الاعتبار لنفسها، والاثنتان تُحمّلاني -باسم منطق لا يفهمه غيرهما- زلّات بني جنسي البادية والخافية، تنهدت وأنا أتأهب لصعود الحافلة، وتوقفتُ فجأة وأنا أرى بائعة الورد تفترش الأرض تحت مصباح الشارع الذي ينير الموقف، سلتها نصف فارغة، لم أفكر، توجّهت نحوها، وسلّمت، وجلست على بعد خطوات، لم تلتفت إليّ، ولم أكترث، شعرت بنفسي أعود سنوات إلى الوراء، وتملكتني طمأنينة عميقة.

للتفاعل مع الكاتبة [email protected]