فضائح روائية ـ1ـ

منذ سنوات زرت دار النشر الكبرى “سوي” في باريس، وزيارة هذه الدار والتقاء المسؤولين عنها أحد أهدافي الأساسية، بل أحيانا يكون سفري إلى فرنسا لزيارتها بمناسبة صدور ترجمة إحدى رواياتي إلى الفرنسية، أو الاتفاق على كتاب جديد، صار مقرها العتيق في المبنى رقم سبعة وعشرين، شارع جاكوب، بالحي السادس من باريس إحدى ذكرياتي الجميلة، منذ أن عرفته لأول مرة عام ثمانين من القرن الماضي عندما وقعت اتفاق ترجمة روايتي “الزيني بركات” والتي صدرت عام أربعة وثمانين بالفرنسية ثم توالى صدورها في لغات عدة بلغت حتى الآن أربعا وعشرين.

سألت أحد المسؤولين بها خلال زيارتي الأخيرة تلك عن الرواية الأكثر توزيعا خلال العام الحالي، فقال على الفور:

رواية كاترين ميليه.

بدأت أهتم بالرواية لأتعرف على ما يجذب القارئ الفرنسي الآن، ولأحاول الوقوف على اتجاهات الأدب الحديث، لاحظت أن الصحافة الفرنسية توليها اهتماما كبيرا، لا أفتح مجلة أدبية أو صفحة ثقافية متخصصة في جريدة يومية إلا وأجد صورة السيدة كاترين ميليه عارية في أوضاع مختلفة، وفي البداية دهشت، ما علاقة هذا العري بالرواية؟ ولماذا تبدو هذه الصحفية والكاتبة المحترمة كأنها إحدى الفتيات المتخصصات في الصور العارية المبتذلة؟ لكنني بعد أن عرفت مضمون الرواية وما تلا صدورها خفت دهشتي، وإن حلت مكان الدهشة الأولى دهشة مختلفة، بل وتعجب مما يشهده الأدب في فرنسا الآن.

المؤلفة صحفية مشهورة، معروفة، سبق أن قابلتها، وإن كانت ذاكرتي تحتفظ بحضور هادئ لسيدة وقور،، نحيلة إلى حد ما، ولكن تلك الصور كانت تقول إنها خليعة جدا، ممتلئة بعكس ما يبدو ظاهرها.

كاترين ميليه ليست شخصية مجهولة، إنها ناقدة فنية بارزة، ترأس تحرير وتدير مجلة “آرت برس” التي تطبع بلغتين الإنجليزية والفرنسية، وتعنى بالفن والأدب، ولها سلسلة مقالات شهيرة عن مفهوم الفن، وكتاب عن الفنان “ايفين كلاين” وهو متخصص في الرسم بلون واحد فقط، اللون الأزرق.

في عام تسعة وثمانين كانت منسقة القسم الفرنسي في بينالي ساو باولو، وفي سنة خمسة وتسعين كانت منسقة الجناح الفرنسي في معرض فينسيا الدولي، كانت شهرتها محدودة في هذا الوسط، لكن بعد صدور كتابها هذا أصبحت حديث المجتمع الفرنسي كله، واحتل كتابها قائمة الكتب الأعلى توزيعا في فرنسا.

الكتاب عنوانه “حياة جنسية”، من أشهر ما كتب عنه مقال الروائي الأمريكي اللاتيني الشهير “ماريو فارجاس يوسا”، وفيه يصف الكتاب بأنه محبط لأولئك الذين انجذبوا إلى قراءته بسبب الهالة الفضائحية التي أحاطته وباعتباره من الجنس المكشوف، الكتاب ليس محفزا جنسيا، ولا عرضا متقنا للجنس، إنما يحوي تأملا عقليا، جافا، يبلغ درجة الصراحة بشكل حاد، غريب يتخذ أحيانا شكل التقرير الطبي، لقد عكفت المؤلفة على وصف حياتها الجنسية في برود وهوس، تماما مثل رسامي النماذج الصغيرة الذين يرسمون سفنا داخل الزجاجات أو يرسمون مناظر طبيعية على رأس دبوس، يقول الكاتب الأمريكي اللاتيني الشهير إن الكتاب مثير، لكنه يترك عند القارئ رؤية محبطة للجنس، بدأت كاترين ميليه حياتها الجنسية متأخرة نسبيا في السابعة عشرة، وهذا عمر متأخر لفتاة أوربية، وتنتمي إلى جيل الثورة الكبرى في مايو عام ثمانية وستين، هذا الجيل الذي تمرد على المجتمع، ورفع شعارات حادة منها شعار الثورة الجنسية، والتي قلبت نوعية العلاقات في أوربا، ولم يحد منها إلا ظهور مرض الإيدز القاتل، والذي أرغم الأجيال الجديدة على الاحتياط والعودة إلى العفة مرغمين.