كلام مقاهي


 

أبعدت حاسوبها ، ورفعت نظارتها، وحكت عينيها بإعياء، لا فائدة، يصر السهم على الإشارة إلى أعلى الصفحة، لا تعرف كيف تحركه، لن تستطيع أن تفعل شيئًا وحدها، يجب أن تتصل بالتقني.

تنهدت، ورشفت بعض عصيرها، الجو بديع، نسمات الربيع تدغدغ وجهها، خلعت نظارتها، ورفعت ذقنها قليلاً، تكاد تنسى أبواق السيارات، وحركة المارة، وهي تتأمل الأشجار الباسقة المصطفة على طول الرصيف، عشرات الطيور الرمادية الصغيرة تعبث بين أغصانها، تحك ريشها، وتزقزق، وتجذب بمناقيرها الضئيلة الحشرات، والديدان المتخفية بين الأوراق الخضراء الكثيفة، تداعب بعضها، وترفرف من غصن لآخر، وتشيع جوًا لطيفًا من المرح، والطمأنينة فيما حولها.

ابتسمت، وتطلعت إلى الناس من حولها، وهي تشعر بالفرح، الحياة جميلة، والطبيعة تحفة ربانية، أغلقت حاسوبها، ومدت يدها إلى ورقة بلوط رماها النسيم على منضدتها، لن يطير العالم إن أجلت شغلها يومًا أو يومين. لمست سطح الورقة بلطف، سبحان الله الذي خلق وأبدع، تنفست عميقًا، والبسمة لا تفارق شفتيها، ارتفع بكاء طفل في مكان ما داخل المقهى، والتفت بعض الزبائن بانزعاج.

سأل أحدهم النادل عما ينتظره ليشغل بعض الموسيقى الهادئة.

«هربنا من البيت بسبب صداع الصغار» اشتكى رجل على منضدة قريبة.

«لن ندفع لنسمع زعيقهم هنا أيضًا» آزره زبون ثان، وتعجبت من قلة صبر البشر.

حالة الافتتان التي غمرتها لم تتبدد...

تواصل بكاء الطفل، وازداد امتعاض الزبائن.

التفتت، صغير لم يتجاوز عامه الثالث يتقلب بعصبية بين ذراعي أمه، ويصرخ، أبوه يحاول تهدئته، وأمه تبدو مغلوبة على أمرها، منضدتهما متسخة، فنجان القهوة مقلوب، وقطع السكر مبعثرة، وكأس المربى مسكوب، وصحن الفطائر يهدد بالسقوط في أية لحظة، انحنى النادل يجمع شظايا فنجان ثان رمي بعيدًا، وصاحت الأم بألم وهي تتلقى قبضة طفلها في عينها.

«لم يعد أحد يقدر على أطفال هذا الجيل» علق شخص، ورغب كل الرواد في أن يدلوا بدلوهم في الموضوع:

«لم تعد هناك تربية»

«أفرط الآباء في التدليل، وها هم يحصدون النتائج، الولد يكسر كل ما أمامه، ويضرب أمه»

«لماذا أتيا به إلى المقهى؟ كان يجدر بهم أخذه إلى مدينة الملاهي»

بدأت الغمامة التي تطير فوقها تذوي، تراجعت زقزقة العصافير، وهبات النسيم، وعبق أوراق الشجر إلى الخلف، وانتقل ضجيج السيارات، وضوضاء المارة، واحتجاج الزبائن، وصراخ الطفل إلى الواجهة الأمامية.

فركت عينيها ثانية، وكأنها استيقظت للتو من حلم جميل، وقررت أن لا شيء يلزمها بالبقاء في هذا المكان.

«تعال، سأريك حوض السمك» قال النادل للطفل محاولاً تهدئته، وقف في عتبة المدخل، وأشار إلى الواجهة الزجاجية التي تزين خلفية التراس.

«حذار! لن يكتفي بالتفرج عليه، سيرغب في مسك السمك!» حذر أحد الزبناء.

جمعت أشياءها، وهي تتنهد بشيء من الحزن.

كانت القعدة لطيفة.

وضعت ورقة نقود على المنضدة، وسمعت النادل يشرح بحماس: «أنظر، هذه السمكة الحمراء هي الملكة، وهؤلاء أبناؤها الصغار، وتلك المرقطة جارتها، وهما صديقتان، والأسماك الرمادية المختبئة خلف النبتة تقوم بحراسة الملكة...»

«إن كنت تظن أن صغار هذه الأيام يصدقون خرافاتك...!» علق أحد المتدخلين ساخرًا، والتفتت لترى الطفل يتشبث بكتف أمه، ويتطلع بافتتان إلى حوض السمك. عيناه منتفختان من البكاء، وصدره يعلو ويهبط بسرعة.

«لم لا تتركينه يمشي يا سيدتي؟ إنه ثقيل عليك» قال شخص، ورد الأب الذي تبع أسرته الصغيرة بعد أن دفع لمسؤول المقهى ثمن الفوضى التي أحدثها طفله: «لا يستطيع، ألا ترى رجله؟ أتينا به من المستشفى!»

تطلعت كل العيون إلى الرجل الملفوفة بالضمادات.

«هاتيه» حمل الأب طفله، وشرح وهو يتنهد «لمست قدمه رجل المنضدة ونحن نجلس، وآلمه جرحه، أعذرونا رجاء. الولد هادئ في العادة، ولكن ما عاناه في اليومين الأخيرين لا يتحمله بالغ، أصيب في حادثة في حافلة الحضانة».

«يا الله! سلامته...»

تبارى الحاضرون في مواساة الأب والأم، ومداعبة الصغير الذي أصبح فجأة ملاكًا يبتسم له الجميع.

حملت أغراضها، وقامت.

ولم تكن تبتسم.