أما أنا فسوف أواصل تعاملي مع العالم من موقع الأمومة ومنطقها.
وانطلاقاً من هذا المفهوم، أتواصل مع كل ما ومن يُحيط بي، أو يواجهني.
ولذلك استوقفني نباٌ أوردته وكالات الإعلام تحت عنوان: «مرض حرب الخليج».
<<<
وهو ليس مرضاً واحداً، بل مجموعة أمراضٍ أُصيبت بها نسبةٌ كبيرة من الجنود الأميركيين الذين شاركوا في حرب الخليج الأولى، في العامين: 1990-1991.
<<<
يقول التقرير الذي أعدّته لجنةٌ طبّية أميركية: إن مسبِّبات المرض ما زالت مجهولة. لكن رئيس اللجنة د.ستيفن هوسر (وهو رئيس قسم طب الأعصاب في جامعة كاليفورنيا) فقد أعلن أن اللجنة التي تولّت دراسة هذه الظاهرة المَرَضية توصّلت الى أن الأعراض المتعدِّدة، والمزمنة، ترتبط بشكل واضح بنشر الجنود.
<<<
وليست هناك نقطة واحدة للألم، بل ان الجندي يشكو من آلام مزمنة، وفي كلّ أنحاء الجسم. وقد عجز الطبّ عن تحديد مسبِّبات تلك الظاهرة المرَضيّة، والعلاجات اللازمة لشفائها. لذلك أُطلقتْ عليها تلك التسمية الغامضة: «مرض حرب الخليج».
<<<
أعادني هذا الخبر الى أيام الدراسة الجامعية، حين قرأنا، مع أستاذ اللغة الإنكليزية أدباً كتبه شباب أميركيون شاركوا في الحرب العالمية الثانية. وما أذكره من قراءة ذلك النتاج الأدبي هو الأوصاف المختلفة لمعاناة الجنود.
صحيح أنّها كانت آلاماً جسدية تلك التي وصفوها، إنما ما كان ينضح من خلال السرد هو الآلام النفسية، وجع الضمير، والعذاب الذي تعانيه الروح التي اختبرت تلك التجارب القاسية.
<<<
وكان أولئك الكتّاب في مطلع الشباب حين دعاهم واجب وطني الى الخدمة في الجيش؛ فتخلّوا عن القلم وحملوا البندقية.
وعندما رجعوا الى وطنهم بسبب انتهاء الخدمة، أو الإصابة، كانوا قد فقدوا رفاقاً، أو أُصيبوا بعاهات ترافقهم مدى الحياة. وهي عاهاتٌ جسدية ظاهرة، ويمكن تحديدها؛ أما تلك الندوب الخفيّة في الخلايا الباطنية من الفكر والضمير فكيف يمكن تحديدها أو معالجتها؟...
<<<
ولأنّهم كانوا كُتّاباً، فلقد لجأوا الى تلك الوسيلة الناجعة يتوسّلونها، للخلاص من ألم يؤرّقهم، ويقضّ مضاجعهم، ألا وهو وجع الضمير.
<<<
أما هذا التقرير الأخير، وقد نُشر أول مرّة في العام 2008، فيحاول تحديد الأسباب وراء معاناة الجنود أثناء المعارك، جرّاء تعرّضهم الى مواد كيماوية، بينها مبيدات الحشرات، وأخرى تُستخدم كدرع لحمايتهم من غاز الأعصاب. أو أن تأثّرهم جاء بسبب تناولهم حبوباً تُعطى للتخفيف من التوتُّر.
يقع التقرير في 452 صفحة، ويؤكّد مُعِدُّوه انه لم يتمّ، حتى الآن، العثور على دواء لعلاج هذا المرض.
<<<
وقد بلغ عدد الجنود الذين شاركوا في حرب الخليج 700 ألف جندي. ويقدِّر الخبراء بأن نسبة الذين يعانون من المرض والآلام تصل الى ربع ذلك العدد.
<<<
وهي الحكاية ذاتها تتكرّر، ومهما تقدّم بنا الزمان وتبدّلت الأحوال.
وأذكر، للمناسبة، شعاراً أطلقته أمهات أميركيات إبّان حرب فييتنام، في ستينات القرن الماضي، وذلك عندما كنّ يشاركن في التظاهرات ومسيرات الاحتجاج، وخلاصتّه: نحن نلد الأولاد ونربّيهم، وأنتم ترسلونهم الى الهلاك.
<<<
وهو المنطقُ السائد، مهما اختلفت الشعوب والحضارات؛ منطقُ القوّة والبطش، في مقابل فلسفة الأمومة التي تنادي بالرحمة ونشر المحبّة.
فهل يبقى هناك مكان لمثل هذا الشعار؟
وهل نصل الى يوم يسود فيه المنطق الرحوم وتنتصر الأمومة على منطق القوّة والحروب؟