هناك أشياء بسيطة يغفل عنها المرء، ولا يلتفت إليها رغم أنها قريبة منه مثل اقتراب حبل الوريد، وإذا كان للسوق آدابه، فإن له أيضًا مستلزماته، وكم أتذكر بكثير من الحبور والسرور زنبيل المقاضي الذي كان يحمله خالي -غفرالله له- لكي يحمل عليه ما اشتراه من أطايب الطعام، وأجمل المقاضي؛ لذا سأكون عاطفيًّا هذه المرة، وأتغزّل في زنبيل المقاضي، هذا الخادم الأنيق والرفيق الرقيق، الذي تركه الناس وألقوه في مكان سحيق، على اعتبار أنه شيء قديم عتيق
وعرف قدماء المجتمع «زنبيل المقاضي» على اعتبار أنه من متطلبات المنزل، وهو بمثابة الأكياس التي تحمل فيها المشتريات في العصر الحديث
وزنبيل المقاضي جسد مرن طويل العمر، ولد مع الإنسان، ولكنه الآن يكافح من أجل الحياة، بعد أن هجم عليه الأعداء من كل جانب
حكى ذلك الراغب الأصفهاني في محاضراته، إذ ينقل قول المأموني القائل
وذي أذنين لا تعِيان قولاً
وجوف للحوائج ذي احتمالِ!
يكُكّف شغل «أهل البيت» طُرًّا
ويحمل فيه من قوت العيالِ
مطيع في الحوائج غير عاصٍ
ولا شـاك إليك من الكلالِ
تسر عليه في الأسواق سرًا
فلا يبديه إلا في الرحال
الله، ما أجمل الوفاء، انظر إلى هذه الحميمية بين «الشاعر وزنبيله»، ونحن مع الأسف نفتقد إلى الحميمية مع البشر، فما بالك بالجمادات..؟!
تأملوا كلمات «أهل البيت» و«الحوائج» و«قوت العيال»، إنها مفردات تتلاصق بالبيئة منذ ذلكم الزمان حتى تصل لهذا المكان
ولا تنسوا تلك «الأنشة» أي محاولة جعل الزنبيل وكأنه إنسان أو صديق أو رفيق ومعين «على أعباء الحياة
فالزنبيل له «أذنان» و«جوف» و«هو مكلّف»، ويجلس مع «أهل البيت» و«مطيع»، ليس كالأولاد الأشقياء هذه الأيام الذين يرفضون شرب الحليب، وهو «غير شاكٍ» مثل البشر الذي ملأوا الدنيا عويلاً وشكوى، وهو «يحفظ الأسرار» وليس خراطًا ولا نماقًا ولا فتّاتًا كما هي سيرة ومسيرة أكثر البشر
يا للعجب..! هذا الصديق الذي يمتلك كل هذه الصفات النادرة، والأخلاق الحميدة الباهرة، ها هو يعاني ويكابر ويصارع من أجل البقاء، بعد أن أصبح التسوق لا يرتبط بزنبيل، بل وصل إلى عالم الشبكات والإنترنت، وكل الأسواق المعلقة في الهواء
حسنًا.. ماذا بقي..؟
بقي القول: رغم أن الغرب قدوتنا في الأشياء الاستهلاكية، والبضائع المادية، إلا أننا لم نقتدِ به في موقفه من الزنبيل، فتجد أن الناس في بريطانيا يذهبون إلى مراكز التسوق الكبرى أو البقالات المجاورة لهم، وهم يسحبون عربة صغيرة بمثابة الزنبيل، ويدلّعون هذه العربة التي تسحب بالأيدي، ويسمونها Donkey وكأنها ذلك الحمار الذي يحمل أسفارًا وكتبًا وأغراضًا
وإذا كان للمرء من أمنية قبل الموت، فهي أنني أتمنى أن أرى سعوديًا أو سعودية يخرج من بيته ومعه مثل هذه العربة ويشتري ما يحتاج، ثم يعود إلى منزله ساحبًا بيده أو بيدها كل ما اشتراه مستخدمًا هذا الـDonkey الصغير في حمل أغراضه وحاجياته
حقًا.. ارحموا عزيز سوق ذل