لم تكن جلسة قمار، ولا مراهنة.. أقسم على ذلك.. تتالت الأحداث بشكل متسلسل وعفوي، ولم أشعر أبدا بأنني أقترف حماقة.. لا أصدق نفسي.. لا أعرف ما يحدث.. سأفقد صوابي دون شك.. وسأموت قهرا وكمدا.
لم تمض دقائق على تسلمي استدعاء المحكمة.. وضعته على رف مرآة الزينة. يدي تدير مقبض الصنبور، والماء يسيل غزيرا على رأسي الغارق في حوض الغسيل.. أريد أن أفيق يا ناس.. يا عالم.. معقول أن تصل الدناءة بالبشر إلى هذا الحد؟ معقول أن أكون بهذه السذاجة، والطيبة، والغباء؟ أنا أحلم؟ هل هو كابوس؟
زوجتي تحضر حقيبتها، والطفل يبكي في سريره، والهاتف يرن، وأنا أسمع كل هذا، ولا أبالي.. الماء البارد لا يخفف من سخونة الضربة التي تلقاها دماغي.. بمن أستغيث؟ من يجود عليّ برأي أو مشورة؟
أخرجت رأسي من تحت الصنبور، ونظرت بقرف لنفسي في المرآة.. أستحق كل ما ألقاه.
أحداث الأمسية اللعينة راسخة في ذهني.. زوجتي متذمرة.. فاجأتها بدعوة العشاء التي وجهتها لأخيها ولاثنين من أصحابي.. حزمت الصغير على ظهرها وأغلقت على نفسها في المطبخ.. أبالغ أحيانا، أعترف بذلك، ولكن وجبة لأربعة أشخاص ليست أمرا مستحيلا.. صحيح أنها قضت النهار مثلي في العمل، وذهبت بنفسها، كالعادة أغلب الوقت؛ لتحضر الصغير من دار الحضانة، ولكنني خرجت لآتيها بما تحتاج إليه، وقمت بنفسي بتوضيب الصالون ونقل التلفاز إليه.. كان عليها أن تطبخ لنا فقط.. وعدت الرجال بوجبة «بيتوتية».. كانت تلك أمسية زفة الدوري. كأس الأبطال المهيب.. مباراة لا يمكن أن يفوتها رجل ذو عقل.
تناولنا العشاء ونحن نتفرج.. قام أخوها يخدمنا، وقلت في خاطري إن ذلك أفضل.. يستطيع أن يروّق مزاجها أكثر مني.. تحبه كثيرا، وتفرح عندما تراني بصحبته.. لو كانت تعلم أن انضمامه إلينا جاء بمحض الصدفة لازداد حنقها.. مر عليّ في المقهى وأنا أتفق مع صاحبي على ساعة اللقاء، فدعوته لينضم إلينا وقبل الدعوة.
تابعنا المباراة باهتمام، وغمرني فرح لا يمكن وصفه وأنا أرى فريقي المفضل يتقدم بخطى ثابتة نحو الفوز.. هدفان للا شيء في الشوط الأول.. صاحباي اللذان يشجعان الفريق الخصم يشتمان الحكم ويتهمانه بالتحيز.. فريقهما يسجل هدفا من ضربة جزاء كادت تفقدني صوابي، وفريقي يرد عليهما في النصف الثاني من الشوط الموالي بهدف أسطوري فقد معه المذيع حبال صوته.. أقفز كالمجنون منتشيا بالنصر القادم.. لم يتبق وقت طويل.. صاحباي ينصحانني بأن أتريث لأن «كل شيء ممكن»، أضحك ملء فِيّ، وأؤكد أن كأس الأبطال لنا.. يستهزئان من تسرعي، وأفقد صوابي، وتزداد المجادلة حدة، وأقدم على الحماقة التي عليّ الآن أن أدفع ثمنها.
جريت إلى درج أوراقي، وأخرجت دفتر شيكاتي، وحررت شيكا بأول مبلغ ضخم طرأ على فكري.. عشرون ألف درهم.. يحصل عليها صاحباي إن استطاع فريقهما قلب كفة اللعب.
وقعت الشيك، ووضعته على الطاولة، وانتظرت.
سجل الفريق الخصم الهدفين المستحيلين، ولكنه لم يفز بالكأس.. أخذها فريقي بفضل نقط الامتياز.. فرحتي العارمة وتشفيَّ في صاحبي أنسياني تماما أمر الشيك.
القاضي الآن يبعث في إثري، ويذكرني بأن ثمة من دفع الشيك للبنك ولم يجد رصيدا كافيا لصرفه.
أخبرت زوجتي بما كان، وانهارت كما لم تفعل منذ أن عرفتها.. قالت إنها لن تبقى ثانية واحدة مع عديم مسؤولية مثلي.. وهي تستعد للرحيل الآن.. وربما فعلت؛ لأنني لم أعد أسمع حسها، ولا حس الصغير.
ما أغباني! صاحباي... ماذا أعرف عنهما غير أنهما يشجعان الفريق الذي أمقته؟ ألتقيهما في المقهى، ونتسكع أحيانا في الشارع، وغير ذلك، أجهل كل شيء عنهما.
متى أخذا الشيك؟ وكيف نسيت أمره؟
أحمق.
قلبت استدعاء المحكمة بارتباك، وأحسست بحركة خلفي.. رفعت رأسي.. أخو زوجتي.. هو من كان ينقصني!
صحت فيه بأنني لا أحتاج للومه ولا لنصائحه.. هز رأسه، وانتزع مني الورقة ومزقها ورماها في الهواء.. أطلت أخته خلفه والصغير في حضنها.. لم يكونا يبكيان.. ابتسما أمام النظرات البلهاء التي قلبتها فيهما.. وتكلما.
لم يكن ثمة استدعاء من القاضي ولا دعوى مرفوعة.. مثلا عليّ الحكاية؛ ليلقناني درسا.. خطف أخوها الشيك من صاحبي حين هما بأخذه في قمة انتشائي بفوز فريقي.. كان من الممكن أن يحدث لي كل ما أوهماني به، لو لم يتنبه صهري إلى الأمر في اللحظة المناسبة. لم أستطع أن أرد عليهما بكلمة.. لكنني تنفست الصعداء.