خاب سعيه وحادت الجهود عن مساراتها، كل ما دبره من الدخول في أوقات معلومة، وبسط الأنواع النادرة من الكهرمان النادر الذي عرف تفضيلها له وإيثارها حباته حول جيدها ومعصمها، مما عرف عنها طول تأملها لحباته وتعريضها للضوء، خاصة إذا امتزجت بالشوائب الأزلية المتدرجة في ألوانها لكنها محتواة في الصفرة الخصبة العذبة، أرسل إلى أخميم، أفضل ما أتمته أنوالها من نسيج الحرير الذي يُرَبَّى من أجل استخلاصه دود القَزِّ في البرابي المهجورة، التي تحرسها أرصاد الجن، وخاطب ولاة الغرب، إفريقية وتلمسان وفاس؛ لإمداده بفيض من بلح كهرماني الطلع، شفَّاف كأنه صيغ من أنقى أنواع عسل النحل الجبلي، لا تطرحه إلا شجيرات نخل نادرة في الواحات القصية، كانت تفطر بالتمر وحليب النوق، كما جاءه أهل ظفار وحضرموت بالعطور والعنبر، قدم إليها ما يرد إليه بنفسه.
تقابله متخذة وضع التلبية، معلنة قابليتها لكل ما يرد منه، لكنه لا يقدم، يطيل النظر إليها، يتنسمها، يخفض ذاته تجاهها، غير أنها بقيت مستعصية، شرع أكثر من مرة في الفعل المباغت، الجذب والإحاطة، لكنه أحجم باذلاً الطاقة الوعرة للكبح وليس لإطلاق الخلق.
أحيانًا تتألق عيناها بوسن العرفان، وانبعاثات الرقرقة، لكنها إشارات غير كافية، يأمن عندما يتأملها، تتبعه خفقات قلبه إذ تتجوهر مكامن الحسن للبصر المحدق.
لم يدخل عليها إلا منبئًا بقدومه، لم يباغتها كما كان يفعل مع بعض جواريه خاصة صغار السن، لم يرقبها خفية كما اعتاد فترة ماضية، لم تكن صموتًا عن جهل أو قلة معرفة، استوثق حفظها أشعارًا كثيرة، وقدرتها على الغناء، لكنه لم يطلب منها الإصغاء، كان يرغب في نزوع منها إليه حتى في الأشياء الصغيرة، بل إن دقائق الأمور تلك هي المحور والمرتكز، لم يدر إلى متى استمرار هذا الحال الذي لم تلح أية بادرة تنبئ بوهنه وبدء تبدله، غير أن الأيام التي لا تبقى على حال بدأت عملها، ولكن على حيث لا يرغب، إذ رصد صفرة الجدب في عينيها، ونحولاً بدأ، وانكسارًا ممتزجًا بلوم، أقضه ذلك، واعشوشب فراغه الأثير فجافاه الرقاد، عند حد معين لابد من البوح، هكذا أفضى إلى طبيبه ابن إسحق، طلب منه أن يتفحصها، أن يجس نبضها، أن يصغي إلى زفيرها، إلى شهيقها، لعله يحقق أمرًا، بعد خلوة دقق خلالها ابن إسحق واستطلع بشجر النعناع الجاف المسحوق المغلي في ماء النيل، هذا ما أعلنه أمام القينة والوصيفات، لكنه عندما خلا إلى الآمر أفضى إليه بأمر وأخفى آخر أما ما صرح به فسوء إقامتها، كافة ما يحيط بها من وثارة لا يريحها، إنما يقض رقدتها، ويقلقل دخائلها، أمضت عمرها كله في البادية، تسرح الطرف في خلاء لم يوضع له حد، وتستنشق هواءً قادمًا من المنبع رأسًا، إن الجدران قاسية عليها مهما كانت كسوتها، رخام رومي أو حرير أخميمي، أطباق الفضة المطلية بالذهب المنقوشة، الممهورة بشعار الخلافة تبطل شهيتها، إنها في حاجة إلى الخلاء، أن تقيم الصلة مع السماء بدون وسيط، حجرًا كان أو بشرًا، أن تدرك الأفق بنظرها عند كل طلة، أن تتهودج، هذا دواء ناجع وبيان لا يقدر أدق القوم على إدراكه، لابد من الامتثال، ليس من أجل بلوغ المرام، لكن لصون المحبوب، وإقصاء عوامل الهلاك.
للتدبير رجال، يعملون أفكارهم، يدركون المراد من كل الجهات، تفحصوا الأنحاء وعاد شادي المعمار المعلم ابن المحسني الرشيدي؛ ليبسط بين يدي الخليفة ما انتهى إليه، ليس بالقول، إنما بالرسم والتجسيم.