هودج ـ6ـ


طلب المحسني مشيّد العمائر إيقاف مرور الإنسان والدواب، وسائر ما يسعى ويتحرك، عدا الطير في الهواء، والأسماك في النهر، وإبطال المشي في كافة الطرق القريبة التي يمكن منها رؤية ما يجري ولو من بعيد، كما صدرت أوامر إلى القوارب التي تسهل عبور النيل، وأبطل صعود المؤذنين إلى المنائر، وأصحاب أبراج الحمام المتابعين لحركة أسرابهم، الملوحين بأعلامهم، منع تسلق الأهرام، يستوي في ذلك القادرون أو الزائرون من بعيد، كذلك طلوع النخيل المشرف أو بلوغ ذرى الأشجار.

في اللحظة المحددة بعناية المنجمين المهرة، طارت أسراب الحمام بالبطائق الحاوية للرسائل إلى الشام والجزيرة وبلاد الغرب، مخبرة باكتمال الهودج بظهور عجيبة ثامنة لا يمكن سريانها ومثولها، من مقر الإقامة خرج بصحبتها يتقدمه الحرس المقرب، الملازم له في اللحظات الحميمية، وعدد قليل من الوصيفات، والقائمون على الخدمة الضرورية، كان الصباح الحالّ بالكون مبشرًا ومشيرًا، برودة لكنها منعشة، مبرزة للمطلع، للبدء الكوني، أول أمس دخل عليه الوزير المختص، يحق له إيقاظه من السبات أو إنهاء خلوته مع من يهوى، إنه الوحيد في الدولة الذي يمكنه إبلاغ الخليفة بأخطر الأمور وأدقها وأرهفها، ما لا يجرؤ البعض على مجرد التفوه به سرًا إلى ذويهم وآلِهِم، جاءه طالبًا الخلوة فأمر بها، مال عليه لينبئه أن العيون والأرصاد تمكنوا من تحديد الشخص الذي تهواه البدوية.

من؟

ابن عم لها

اسمه؟

المياح

صفاته؟

يماثلها عمرًا، مشهور عنه قدرته على تلقيح النخيل في زمن السفاد، له إحاطة بكافة ما يتعلق بالنخيل، يرسلون في طلبه لمداواتها إذا ظهر عطب، أو حل داء خفي.

أين الآن؟

طافش، هائم على وجهه، ربما في الواحات القصية، أو لاجئ مستجير بأهل النوبة، وربما يجوس بالقرب من القصر، لا مكان يُعرف له، اختفى منذ خروجها تلبية للرغبة العلوية التي لا يمكن ردها أو منعها، أدرك أنه مطلوب يومًا ما. لم تكن مهمة المُبلغ قاصرة على الإفضاء بما عنده فقط، أحيانًا يبدي المشورة، ولأنه أول من تحدث في الشأن، أصغى الآمر إليه وباح بقليل من كثير عنده، لم يعرف الوحدة والعزلة في حياته كما كابدها، منذ أن وصلت تلك البدوية الفارهة، إنه محاط بالخدم والحرس، وأركان الدولة والندماء على أهبة للتلبية، لكنه بعيد، وأصعب الوحدة ما كان بين القوم، يراهم البصر والخواطر تحول، وبعض الإنسان يعوق بعضه، العاشق لابد له من الحديث، خاصة إذا لم يقع التوحد بالمحبوب، لاحت الفرصة فلم يضيعها، تطلع إلى المبلغ بوهن مستفسرًا عن الممكن، خاصة أن الهودج أوشك على التمام، وبعد الزيارة الأولى لاحظ فتورها واستئنافها الرحيل غير المرئي واستحالتها.

قال المبلغ إن ملكًا من ملوك الهند استعصت عليه جارية لتعلقها بعاشق يقيم في مدينتها، أرسل في طلبه، وأتاح لهما الخلوة، غير أنه دس السم البطيء للحبيب المتين المرغوب، شيئًا فشيئًا فشا المرض في ظاهره وباطنه، راح ينطفئ على مرأى منها ومسمع، إلى أن استحال إلى عبء ثقيل بعد أن كان جسرًا متينًا وربوة زاهية، وعندما ذوى تمامًا كان التعلق قد تقلقل، والمحبة رغم الحزن تهن شيئًا فشيئًا، وفي اللحظة المواتية نفذ الملك بلفظه وجميل عنايته، فتمكن وأرسى.

قال المبلغ إن أميرًا من رجال الصين كان متوليًا على ناحية شاسعة، استعصت عليه مغنية، ضاربة للدف، عازفة على الجنك، ولما أدرك تعلقها بمغنٍّ من ناحية أخرى أطلق الأعوان في أثره، رصد الجائزة المغرية للإيقاع به، وبعد أربعة عشر شهرًا أوقعوا به، وأرسلوه إليه محبوسًا في قفص من حديد، لكن البنية الهيفاء ناحت عليه، ولم ينفع معها جهد أو سعي.

قال المبلغ إن ملكًا فارسيًا قديمًا تأكد من عشق امرأته المحبوبة المقربة غيره، خلا بها في مكان قصي، وأجهز عليها وهو يرثيها ثم قال فيما تلا ذلك: إن امتلاك الشيء يكون أحيانًا في فقده!