المكان بارد.
الساحة فسيحة، والناس يطوفون في المكان من دون توقُّف. "بون"، مدينة عريقة في وسط أوروبا، وأنا أزورها لأول مرّة؛ وأُعجب بالهندسة المعمارية، وهي قديمة، أنيقة، ومحفوظة في أروع إطار.
***
مثل لوحات فنّية تبدو المباني. وأشعر، لبعض الوقت، أني أليس في بلاد العجائب.
***
يلفتني بصورة خاصة نشاط المسنّين.
ويخرجون في هذا المهرجان الحيّ، غير مبالين بالصقيع.
بعضُهم يتوكّأُ على عكّازة أو إثنتين.
يطلع أمامي وجهُ سيّدة نشيطة، تقود عربة، وحسبتُها ذاهبة لتملأها بمشتريات من دكان البقال.
لكن، وعندما اقتربت منها، تبيّن لي، انها وسيلتها للتوكُّؤ، والسير منفردة ومستقلة.
***
يعجبني نشاط المسنّين بصورة خاصة. وأتساءل اذا ما كان ذلك هو نَسَق الحياة؛ أم أنّها الوحدة، تدفعهم الى الخروج منفردين، ومعتمدين على أنفسهم وحسب!
***
وكيفما التفتُّ، تطالعني واجهات المخازن، تعرض آخر موضة للشتاء.
هنا، يصل الشتاء قبل ان يبلغ ديارَنا؛ هكذا فكرت، وكنّا ما نزال في منتصف شهر تشرين أول، لكن الحرارة تدنّتْ لتصل درجة الصفر.
***
وألاحظ بصورة خاصة، النظافة والأناقة في كل مشهد، وليس في واجهات المخازن وحسب؛ لأن كل فرد في هذا المجتمع، يعتبر الأمكنة العامّة بيتَه الخاص، وعلى هذا الأساس يتعامل معها.
***
أتابع تجوالي في الساحة.
وتطالعني النصب والتماثيل، وقد رُفعت لتكريم الروّاد وبُناة هذه الحضارة.
***
أسأل مرافقتي: أوَلم تتأثّر هذه المدينة بالحرب العالمية الثانية، مثل مدينة "برلين"؟... فتردّ سلباً، وهذا يبدو في كل المشاهد التي تحفظ التاريخ.
***
وعندما زرت "برلين" في السنوات الماضية، لفتني نُصب مختلف عن كل المشاهد، وهو ما تبقّى من عمارة قُصفت إبّان الحرب.
ولماذا يُحفظ بين حشد العمارات الأنيقة؟
ربّما للذكرى. وربما يتعلم الناس كيف تكون آثار الحروب، فلا تُعاد!...
***
أفهم معنى تلك الرسالة، وقد سجّلتها في إحدى رواياتي: يجب ان نتذكّر ما تفعله الحروب، كي لا تتكرّر. وكانت "بيروت" في بالي آنذاك.
***
لكني الآن أسير في ساحات مدينة "بون" وقد كانت العاصمة فترة انقسام "برلين" الى شرق وغرب.
وهي الآن، لم تعد العاصمة، إنما تحتفظ بأناقتها، برغم وجود بعض المتسوّلين في زوايا الساحات والشوارع. ومعظمهم شباب في مطلع العمر، وسبب وجودهم في تلك المواقع المُزرية هو الإدمان، الآفة التي لا تخلو منها المجتمعات الحديثة.
***
وزيارتي الى هذه المدينة لم تكن لغاية سياحيّة، بل لحضور مهرجان أدبي وفنّي تحت عنوان: القاهرة – بيروت. يدوم شهرين، ويضمّ حوارات وملتقيات لشتّى الوجوه الثقافية.
وقد جئتُ للمشاركة في قراءات من رواياتي المترجمة الى الألمانية. تلك الترجمة التي شاعت في السنوات الأخيرة، وكانت اللغة الألمانية في الطليعة، إذ أنّها طالت معظم البلاد العربية، حيث تُكتبُ الرواية العصرية. وكنت دائماً أعتبر الترجمة أشبه ببناء جُسور وليس بين اللغات وحسب، بل بين الحضارات، ولمزيد من المعرفة والفهم.
***
بعد رجوعي الى بيروت التقيت وفداً جاء خصيصاً من ألمانيا لإجراء حوارات تحت مختلف العناوين الثقافية، وكانت تلك فرصة مُضافة الى الرحلة، كي أسمع رأيهم في وطننا.