الحزن يكسوني، كما تكسو الثلوج البلاد البعيدة، وشيء ثقيل يمتطي ظهري، يقودني إلى قدري، وماء يعلو وجهي كل مساء حين تخنقني أمي بالعتمة، أصادق النجوم، فتخنقني بحكايات لا تنتهي، أنام والكوابيس لا ترحمني..
رغم كل احزاني الشقية، وينابيعي التي تجف، أصرُ على عدم شراء الوهم، وأرفض أن أشرب الحب المر، وأنزع القبلات الباردة من على فمي وأقذفها في فرو قطط الشوارع، أرفض أن أكون حزينة، مثل لوحة معلقة في متحف يبصر الناس فيها حزناً لا يدركونه، وأرفض أن أكون حكاية معلقة على شفاه الجيران، وألسع الأيادي الممدودة لمواساة فارغة، وقد تكون استعراضية..
كل حزني أبيعه لبائع الخردة، الذي يمر ببوقه كل مساء قائلاً: "أدوات خردة للبيع"، أفكر في بيع قلبي، ولكنه لم يفرغ بعد ولا يمكنني أن أستغني عنه، فأعرض عليه روحاً قديمة اهترأت، يقف متعجباً مما أعرض عليه قائلاً: "لكن هذه روح، لماذا تبيعينها؟"، أخبره بأنها صدئة، فيُعجب بها وأرفض أن آخذ ثمنها..
أنا لا أصدقاء لي، وكل أصدقائي يعرفون ذلك، يأتون ليهزموني في قضايا الحب، ومعارك الشوق، فينشق ضلع من صدري وأداري الصوت بالضحك، ونكران المأساة التي تعلو أكتافي كجثث نسيت أن أردمها..
يلتهمني إطار صورة وبائع تجوال يبيع الحظ في بطاقات اليانصيب، وأخبرني أنه يتمنى لو كان يبيع الحب، لأشبعني منه، فضربت صدره بمعصمي قائلة إن بي ما يكفي من الحب، ولكن لمن يستحقه، وركضت أداري دمعي في داري..
أجلس أمام الأطفال الذين يقطفون الوردة كما فعل العمر بي، ويصرون على قولهم: "فتحي يا وردة، غمضي يا وردة"، ألعب معهم وأرفض أن أغمض عيني عن رؤية العمر ينقضي أمامي لأني لا أريد ان يفوتني شيء من الحياة وأنا أضيعه في الحزن، يعجن الأطفال وجه الحياة أمامي، فأغفر لها لأجلهم، وأطالبهم مزيداً من الضحكات والنكات..
يشكو جاري من غسيلي الذي يبلل البلكونة لديه، ويُعكر أمسيات أم كلثوم في مسرح شقته، أخرج معتذرة له، وألملم أحزاني من على حبل الغسيل، وأنشف الدمع داخلي، وأعود طارقة باب شقته أحمل وجهاً تعلوه ابتسامة وكعكة خبزتها الشمس.. نغني لأم كلثوم سوياً، ويشكو الحي من بذاءتنا، على الرغم من أننا لم نتخط حدود الرقة في تمزيق ثوب أحزاننا الذي يعلمه كلانا.