جنون القلب

د. سعاد الشامسي 
د. سعاد الشامسي
د. سعاد الشامسي

ها هو الحُزْنُ وما يفعلهُ بالبشر..

آهٍ مِن قلوبِنا الصدئة، تحللت أوتارُها في مُجريات الزمان.. وتآكلت حوافُّها مِن مِلح عابث..

تَبُثُّه الليالِي فينا.. فتُحوِّلُنا مِن بشرٍ يُحِس، إلى حجرٍ جامد..

آهٍ مِن عيون خابت ظنونها، فانطفأت.. وذبُلتْ كورْدٍ عجوز، لم يَعُد فيها مِن لهيبِ الأمل إلا بقايا مُتآكلة..

آهٍ مِن القلبِ وما يحمِله من أشجان مُتراكمة كطمي الأنهار، حتى سُدت أبوابُ القلب فلم تَعُد صالحة للدخول والاستعمال...

رأفةً بقلبك.. ذاك الجزءُ الخَطِر في أعلاكَ.. يختبئ بين ضلعين ووتر كي لا تراه العيون.. ولا تحمِله بل هو يحملك، يُحركك إلى ما فيه قَدرُك وهواك.. يَعُجُّ بالمشاعر المُتداخلة..

حزينٌ هُو، حين يراك مفقوداً ضائِعاً.. يائِسٌ هو، حين يكسِرُك الزمان ويأسِرك.. باسمٌ هو، حين تقع في شباك الحُبّ عُنوة.. حين تفقد صوابَ عقلِك، وتتخلى عن حِكمَتِك في رؤية الحياة..

فقط من أجل حُبٍّ صادِق، شعورٌ ينزع عن كاهِلك تِلكَ الأحمال المُوحِشة.. ويُنجيك من خشونةِ الزمن ومُقدّراتهِ.. ما لَك تقسو عليهِ، وهو يَحنو عليك؟ يُخَبِئُك مِن متاعب لا يتحملها بدنك.. ويُلقي على وجهك وِشاحاً يُخفيكَ مِنْ أعيُنِ المُتربصين.. آه لو تعلم ما يسكُن صدرك، لمِلت نحوهُ وضممتهُ.. إن كُنتَ تحتاجُ إليه ليَمنحك المزيد مِنْ لحظاتِ الحياة.. فهو يحتاجُ إلى رأفتِك، ورحمتِك بذاتك، واحتوائك لمشاعر تملؤه..

آه من القلب وما يحملُ لَنا.. نَتِيهُ بين الغيوم والضّباب.. فيَمُدُّ لنا ذراعاً مِن الإحساس البَصير..

فنهتدي إلى سُبُلنا المنشودة.. نقعُ ألفي مرةٍ في جِراحٍ وبؤس، ونَظُنُّ بأنها الوقعة الأخيرة..

فيُرسلُ لنا القلبُ خواطرِه لَتُرطب حرارة الجرحِ وتُخمِد ناره..

للقلبِ رسائل، ربما تأتينا في هيئة كلماتٍ تُخاطرُ أذهاننا.. تُملي علينا خريطةَ الطريق إلى النور، كلمات تُهدِّئُ من روْعِنا.. تُداوي جِراحنا، وتبعثُ فينا روحاً جديدة.. اسمُها الأمل.. وطريقها مُمهد بالخير والورود..

أتعلُم عن رسائل قلبك شيئاً؟! أم اعتَدْتَ على كلمات البشر ورسائلهم، ونسيتَ ذاك الصغير بين ضلعيك وحيداً؟ يُناديك ليلاً فتتجاهلهُ، ويُوقِظك صباحاً فتُهمِل وجوده..

أتعلم لو أنك تُدرك ما للقلب مِن فوائد روحية لحياتك! لتمنَّيْتَ أن تُخلقَ بقلبيْن، أحدُهُما يُحرّك مشاعرَك ويُجِدُّدُها.. والآخرُ يحرُسُك مِن كُل شر..

نأتي إلى الحياة تائهين، بين الخطأ والصواب، بين الخير والظُلمة.. بين الشمس والعتمة، تُقلبنا الأيام وتشغلنا السِّنون.. فنصيرُ كُلُّنا في قالبٍ واحدٍ، صورة تتكرر مِن تلقاء نفسها.. تنسُجُنا الأقدارُ في دوائرَ مُغلقة.. فنبقى أبَدَ الدَهرِ عاجزين عن تغيير المسار.. نَعجز حتى عن الانحناء قليلاً إلى هذا الاتجاه، أو ذاك.. فـنبيتُ كُلُّنا مُتأرجحين على حافة ساقيةٍ تدور.. يدفعها ثورٌ مُعصَّب العينين.. لكن، هناك بين تلك الدوائر أرواح تطوفُ حُرة.. طَلِقة في سماءٍ بلا نهاية.. تتسعُ لها الأرضُ أينما ذهبت.. وتخضع لها الأقدار وتهدأ أمواجُها.. أرواح مِثلي ومثلك، لَكِنها قررت ألا تبقى أسيرةً في دوائر القدر.. أن تتحرر من قيودِ الروتين وحِبالهِ المُمِلَّة.

قررتْ أن تُحاربَ العادة، وتبتكِرَ كلَّ جديد.. هُنالك من آمن بأن الحياة واحدة.. فكيف لتلك الفترة القصيرة أن تضيعَ بِلا جديد؟

كيف نعيشُ اليوم كالأمس، وغداً مثل سابقهِ من الأيام؟ وكيف ألا نصنع تغييراً ما؟ أن نُطلقَ العنانَ لمشاعِرنا تمرح وتلعب؟ وتُعبر عما بين طياتِها مِن الجُنون..

نَعم يا عزيزي وعزيزتي، جُنوُن القلب، وثورة المشاعر، وحرارة التجربة..

فالقلوب يا عزيزي تميلُ إلى المُتجددِ، والمُتفتّحِ.. والمتفهّمِ المجنون.