في بعض الدول، تركب القطار، تقطع تذكرة لتعاود حسابات العمر، قد لا تكون قاصداً وجهه محددة، لكنك تريد أن تسير بك الطرق، وتأخذك إلى وجهه لا تعلم عنها شيئاً سوى اسمها الذي قد تلتقطه من شفاه الناس..
هنا في المكان الذي أخبروك قاطعو التذاكر بأنه لك، تجد سيدة يكسوها التعب جالسة، وفي حضنها طفلة كبيرة بلغت من الحب شهوة القبلات ونسيم ليالي الصيف، فتتراجع وتقف في الممر الذي يزاحمك عليه الناس أيضاً، في القطار، الساعة السابعة والنصف، صدر القطار ممتلئ، تبدأ رحلة الحياة التي قررت تجربتها، ونمت الليل متحمساً وسط سخرية أهل المكان منك؛ لأنك تُصر أن تُجرب عيشة هم أدركوا أنك غريب لا تقدر عليها..
أمامك عناصر جيش عائدين لبيوتهم كأنهم أطفال صغار، عيون نعسة، أيادٍ متعبة من تلقيم السلاح، شوق جارف للقاء الأحبة، وهنا بجانبي شخص تلمع ذاكرته بالخيول الرمادية التي رآها في أحلامه، ونبوءتي تفسر حلمه، بأنه راكض نحو موته بكل مهارة، وهذا شأن سُيحزن مصر على شبابها..
صوت أم كلثوم في الخلفية يفرض سيطرته، على الرغم من الفوضى، وفي القطار حيث أصبح للرائحة صوت مُزعج، ورائحة سجائر تملؤها، لا تميز الشفاه التي تدخن من التي تمتنع، كلها شفاه طبع الليل عليها لونه، وأيادٍ تحيي الصدور أصالة حين يتعارفون على أصل كل منهم، وأنا الغريب بينهم تنوبني ابتسامة من زمن الأبنودي، الذي بسط شعره شارعاً ليمر عليه «الغلابة» في حياتهم..
طلبة جامعة يركضون نحو المستقبل، ركض اللهو لا الركض الذي نستوعبه بعد فوات الأوان، بعد أن تهلك أحذيتنا ونجدف بأحذية آبائنا، الذين يكبرون في العمر ويزيد تشبثنا بوجودهم مهما تسلقنا جبالاً حول العالم، سنعود ولن نبلغ جبال حب الوالدين، والدعوات التي ترصف الطريق أمامنا..
هنا باعة متجولون يفرضون بضاعتهم عليك، وساقي الشاي الذي ينسل بين الزحام، وتخشى أن يحرقك ولكنه يمر بيننا، كما يمر الجرح في نصال القلب..
هنا عيون تُطالع عيون لا تعرفها، غرام عابر، وحزن مثابر، ولكن هذا البلد يدفن الأحزان بعيداً عن أرض ابتسامته التي تتدفق في وجهه وهو مسافر ليواجه يوماً لا يعلم عنه شيئاً.
أما عني فأحزاني معي، تُسليني وأذاكرها جيداً حتى لا يفجعني الفرح مثلما فعلها مرات سابقة.
الله معنا الآن، القطار بطيء، بطيء جداً، حتى الأشجار لا تودعنا سريعاً على الطرقات لأنها تعلم أنه مازال هناك وقت!
هناك جثث نائمة لمحتها للتو، وعيون يالله ما أجملها تستحق الكثير من النوم.
يمر بائع بطاقات الشحن، يُصر علي أن أشتري منه، فأخبره:
لا أريد بطاقة شحن يا سيدي، أريد قلباً أتكىء عليه، وقدر يكسر المُعتاد ويعيش أبي أبد الدهر، وأن يمتد هذا الطريق للأبد..