من الشخصيات الشهيرة المعروفة بالمجتمع الثقافي السكندري المعماري الفذ د. محمد سعيد فارسي، أول أمين لمحافظة جدة، والمؤسس الأول لشكلها الحديث، وأحد أهم أقطاب الحركة الفنية في المملكة والعالم العربي.
وفي ظل احتفال المملكة باليوم الوطني السعودي، تظل ذكرى د. فارسي أحد أعمدة العمارة والتطوير الحضاري باقية في قلب كل سعودي ومصري.
د. فارسي علامة سعودية في قلب الإسكندرية
لا يوجد بالمجتمع الفني والثقافي والمعماري السكندري في مصر من لا يعرف د. فارسي، والذي استطاع منذ ابتُعث إلى مصر بالعام 1959، ليدرس التخطيط والعمارة والتصميم والإنشاء، وينال بكالوريوس الهندسة من جامعة الإسكندرية عام 1963، أن يكتسب احترام وتقدير أساتذته طالباً، وفخر وإعجاب رؤسائه بالمملكة معماريا فذاً عقب عودته.
وكما احتضنت الإسكندرية الكوزموبوليتانية بأجوائها الثقافية التعددية كبار الشخصيات الدولية والعلماء ومشاهير العالم منذ فجر التاريخ، والذين تعلموا بمؤسساتها التعليمية ونهلوا من مناهلها الثقافية وارتادوا ساحاتها الفنية والفكرية والأدبية، بداية من أفلاطون وأرخميدس وجالينوس، حتى ابن خلدون وابن جبير والمرسي أبو العباس، وبعصرنا الحديث العالم أحمد زويل والزعيم جمال عبد الناصر، وآخر ملوك إيطاليا فيكتور عمانويل، والملك حسين ملك الأردن، وسيد درويش ويوسف شاهين وبيرم التونسي وديميسيس روسوس وغيرهم كثيرون، احتضنت محمد سعيد فارسي الشاب السعودي المكّي المفعم بالحيوية والذكاء، الممتلئ عزيمة ونشاطاً والمفتون بالعمارة واتجاهاتها الحديثة، والعاشق للفنون بمدارسها ومدارساتها، فتعلم بجامعتها العريقة، وحصل على أعلى الشهادات العلمية منها، ليكون د. محمد سعيد فارسي -رحمه الله- فارس العمارة السعودية، وأول أمين لمحافظة جدة والمؤسس الأول لشكلها الحديث، وأحد أبرز الأسماء الوطنية السعودية، وأشهر صنَّاع التنمية، وأول مؤسسي تجميل المدن.. وأحد أقطاب الحركة الفنية في مصر.
ما بين عروس البحر المتوسط وعروس البحر الأحمر
عاش المعماري الشاب أجواءً شديدة الخصوصية من حي "المسفلة" المكّي لحي "كامب شيزار" السكندري رحلة مفعمة بالفن والعمارة والتشكيل والإبداع والتدفق.. حيث سكنته درة العالم القديم، ولفحته بأجوائها الكوزموبوليتانية، وتلقفته روحها الفتية، ليذوب عشقاً في حيائها وأحيائها، ما بين بحري، الأنفوشي، والسرايا، وكامب شيزار، محتفظاً بسلطنة الأماكن وسلطان الذكريات.
عندما عاد للمملكة ومنذ إرهاصاته الأولى، راوده حلم جدة عروس البحر الأحمر، كما الإسكندرية عروس البحر المتوسط، فاستلهم روح المدينة العريقة الضاربة بجذورها في عمق التاريخ، استدعى ذكريات الفن والجمال والرقي من محبوبته ابنة الإسكندر الاكبر، والتي ظلت في قلبه، قابعة في عقله يستعيد ذكريات مبانيها العريقة عبر تصميماته وإبداعاته المعمارية، واستطاع بجهود جبارة إحياء الواجهة البحرية جدة، وخطط وطورشوارعها ومنافذها وواجهات مبانيها، واحتضن فنانيها الفوتوغرافيين والتشكيليين، و حوّل ثغر المملكة الأبيّ الباسل إلى متحف مفتوح ومعرض لمجسمات النحت العالمية لكبار فناني العالم..
جسّد د. فارسي حالة شديدة الخصوصية من العلاقات الرائعة بين الشعبين المصري والسعودي، فظلّ على العهد صديقاً صدوقاً لكل الفنانين والتشكيليين والمعماريين، حتى إنه تم إطلاق اسمه على أحد مدرجات قسم العمارة بكلية الفنون الجميلة بجامعة الإسكندرية، كما أن مؤسسة فارسي لرعاية الفنون والثقافة طالما تبنت وساعدت وعلمت مبدعين وموهوبين مصريين.
فارس فنان مغمور بحب المملكة عاشق لثلاثي مكة جدة الإسكندرية
يقول د. عبد السلام عيد، وهو أحد أصدقاء د. فارسي، وفنان الجداريات العملاقة العالمي لـ"سيدتي" : د.سعيد فارسي كان فارساً فناناً مغموراً بحب المملكة عاشقاً لثلاث مدن؛ مكة وجدة والإسكندرية، ولطالما حلم بجدة أن تكون عروساً ودرة لمدن البحر الأحمر، وسعى وخطط وهندس بذكاء، فقد كان من الرعيل الأول الذين شيدوا المملكة بسواعد فتية وجهود دؤوبة مخلصة وعشق لا ينتهي.
حصل د. سعيد فارسي على درجتي الماجستير والدكتوراه من جامعة الإسكندرية، ودارت رسالته الأولى في رحاب مدينة الحجيج مكة، وبالثانية استعرض التحولات المدهشة الحضارية والمعمارية اللافتة، والتي كان فارسها في جدة عروس البحر الأحمر..
وعن تجربته مع د. سعيد فارسي، يقول لـ"سيدتي": كانت تجربة ثرية استفدت منها كثيراً، حيث ظللت سنوات أعمل في ميادين جدة، فعملت كاستشاري بجامعة الملك عبدالعزيز، فأدين بالفضل لأستاذي وصديقي د. محمد سعيد فارسي، وكان وقتها أمين منطقة جدة، وقد أعطاني فرصاً جيدة للأعمال الميدانية خاصة الجداريات العملاقة، حيث كانت التجربة خطوة مهمة في التعرف على خامات كثيرة وإمكانات ضخمة في التنفيذ من خلال المحاجر والأوناش، لافتاً أن د. سعيد فارسي كان يرى أن امتداد الجدارية الفنية على الجدار ووقوفها معادل موضوعي لامتداد تاريخ الأمة العربية وقضايا الشعوب، فلطالما كان د. فارسي الفنان يؤكد أن "الجمال لا تخطئه العين، ولا تسقطه الذاكرة أبداً".
توفي المهندس د. محمد سعيد فارسي بالعام 2019م ، بعد حياة حافلة بالعطاء ونعاه المجتمع الفني والثقافي والمعماري السكندري والسعودي.. ليظل باقيا في قلوب كل من التقوا بهم وعايشوه وعاشوا معه..