إنسانٌ في طبيعته متفائلٌ، يتخطى الأحزان بشكل سريع مرّات، لكنه في مرات أخرى لا يتمكن من ذلك، فما زالت وجوه من فارقونا تحفر في ذاكرته بسبب سحابة الوباء التي مرّت، كل هذا يدعوه للتساؤل: «لماذا الحرب أيضاً»؟
إنه الفنان والأمير سلطان بن فهد آل سعود ، الذي يشارك في أسبوع دبي للتصميم، ضمن «ترمينال جي»، لعلامة «إيوان مكتبي»، بمجموعة، تتحاور قطعها الفنية في مواضيع من روح منطقة الخليج، وقد أطلق عليها «ديلايتس.. المسرات»، وهي بمفهومها إما دعوة مباشرة للفرح، وإما أن الفنان، الذي حاورناه بشفافية بعيداً عن الألقاب، يحمل في داخله رغبة لإبعاد الحزن عن حياة الناس.
هو يحاول التغيير عبر نشر الفرح من خلال الفن؛ لأن الأفراح في الفترة الماضية صارت عن بعد، يتابع قائلاً: «الإلهام الذي جاءني في المجموعة ناتج من عودة الفرح للناس، فعبارة «طابت أيامكم بالمسرات» المنسوجة على إحدى السجادات، لفت انتباهي إليها بعض الأصدقاء الأجانب، الذين سألوني ما معنى المكتوب؟ وعندما حاولت ترجمتها، اكتشفت أنها مقولة يمكن للمرء أن يقولها كل يوم؛ لأنها مدعاة للتفاؤل».
تابعي المزيد: مصمم الديكور حاتم الأحمد: المبدع يصنع من حبات التراب ديكوراً رائعاً
الجمادُ يبوح بذكرياته
يتفرد الفنان سلطان، ذو الطابع الخاص في كل ذكرى، بعشق الأشياء المتروكة والمهملة، التي لم تعد قابلة للاستخدام.. يغوص في خبايا قصتها.. هو لا يؤلفها، لكنه يسردها من خلال رؤيته الخاصة، فيما جعلت غربته في أميركا علاقته الضمنية بمفردات اللغة أكثر عمقاً، حتى قال له أحدهم: «كأنك تحاول أن تجعل الجماد يبوح بذكرياته»! يعلّق قائلاً: «ذلك أنني أحاول ترجمتها، لأعرف كيف أشرحها، مثلاً سجادة الصلاة، تشهد تلك العلاقة بين المصلي وربه، أنا لا أعرف ما كان يدعو في سره، لكن السجادة هي التي تحتفظ بهذه الأسرار».
للفنان سلطان عمل أنجزه في العلا، على منشآت حجرية، يقال إنها كانت مصائد للحيوانات ما قبل التاريخ، وبعضهم يقول إنها مجرد صخور، يستطرد قائلاً: «برأيي أنها مصائد طويلة، لا يمكن رؤيتها إلا بالطائرة، بغض النظر عمّا كانت عليه، أنا أخذت شكلها، وتخيلت طريقة عملها، بدءاً من وضع الطعم داخلها، حتى تغلق فكيها الحجريين حول الحيوان، وليس خطأ أن أسردها بالطريقة التي أراها، فالعمل الفني يتحمل التحول القصصي، أنا لا أتكلم عن قصص الأنبياء.. بل عن أشياء ليست لها شروط وأحكام».
فخور بالسعوديات المبدعات منذ البدايات، وقد أتيحت لهن الفرص الكبيرة بدعم حكومتنا الرشيدة
الفنُ يُكرّم الأشياءَ المهملةَ
طالما رآه باعة أسواق المقتنيات الأثرية، يجمع أشياء يعتقدون أن لا قيمة لها، كي يحولها إلى عمل فني، وقد أولع مرة بجمع قطع الموائد الملكية، وشكلها في عمل، بعدها أدرك باعتها سبب اقتنائه لها، فرفعوا أسعار ما تبقّى عندهم، فتحولت من مهملة إلى مهمّة، يقول الفنان سلطان: «في حرب الخليج، لم تمكنني الإصابة في رجلي، من أن أكون متطوعاً فعملت مترجماً للجيش الأميركي، أذكر أنني بعد انتهاء الحرب، جمعت الأوراق التي كانت ترمى من الطائرات وكانت تحكي حقبة زمنية في 1991، ومنذ فترة قريبة طبعت منها نسخاً، وفي المعرض بدأ الناس يأخذونها لأوقع لهم عليها، ثمّ فُوجئت بهذه الأوراق المنسوخة تباع على أنها من حرب الخليج، صار لها قيمة لأنها تحولت إلى عمل فني في «حراج بالرياض»، فالفن يُكرّم الأشياء المهملة».
شابٌ محبٌّ للتاريخ والقطع النادرة التي تروي قصص شخصيات مرت في حياته، مثل الملك عبد العزيز، ليعيد صياغتها، يقول بشغف: «عثرت على شهادة حج مهترئة تعود إلى عام 1945، تحكي رحلة الحج لعائلة مصرية بالتفصيل، وعودتهم إلى لبنان ثم إلى مصر، مؤرخة باليوم والمكان، واسم كل بلد مروا به، ومكان سكنهم في مكة، واسم الباخرة التي أبحروا فيها.. جلست فترة أحاول اكتشاف الكلام فيها، وهي من أهم مكتشفاتي التي سترى النور قريباً في عمل فني».
تابعي المزيد: المصمّمة ناريمان الزرعوني: اللوحة الجدارية في الديكور تخاطب المتلقي بتكوينها
حالةٌ إنسانيّةٌ عشتها معهم
طالما أوغل الفنان سلطان في تركيباته الفنية، بملامح الطبقة العاملة، وطريقة أدائها الدقيق للعمل، وهو يجده موضوعاً مهماً في «القصر الأحمر»، التاريخي في مدينة الرياض، الذي شُيّد عام 1942 ليكون سكناً للأمير سعود بن عبد العزيز، يتابع قائلاً: «الطبقة العاملة هم الجنود المجهولون، وخصوصاً النساء، في القصور الملكية ذاك الوقت، بحثت عمّن يقرر تفاصيل وليمة ملكية، من يدربهم، من يلبسهم، من يختار الوقت والدقة في الأطباق، فاكتشفت أن مائدة الملك سعود في ذاك الوقت كانت من أهم الموائد المنافسة، وهي تغير النظرة عن السعوديين من أنهم لا يهتمون بتلك التفاصيل، لكن جودة الآنية والخزفيات المستخدمة، تحكي قصصاً مختلفة، فالملك سعود كان عنده شيف فرنسي وآخر إيطالي في مطابخهم لائحة طعام، وقد وجدت أحفاد من كانوا يعملون، وكرمتهم ضمنياً بجعلهم هم الذين يتعشون على المائدة الملكية.. هي حالة إنسانية عشتها معهم في عمل فني».
اعطوا الفنَّ فرصةً
يُحبُّ الفنان سلطان التصميم والعمارة قبل أن يغوص في عالم الفن، فقد درس الهندسة، ثم اكتشف أنها غير ما كان يريده حتى جاءته الفرصة ليتابع في العمارة والتصميم، يضيف: «كنت أرسم منذ صغري، لكنني لم أتخيل أنني سأعرض أعمالي، ليس خوفاً من الانتقاد، بل لأنني لم أدرس الفن والتصميم، لكن الولع بزيارة الأماكن الفنية واطّلاعي على الفن، وجمع القطع الأثرية؛ كل هذا جعلني أشارك في «أسبوع دبي للتصميم»، فالفرصة أتاحت لي إضافة لقب مصمم إلى مسيرتي الفنية، وهي إضافة كنت أتمناها وأنتظرها، لكنني أطلب من الناس أن يعطوا الفن فرصة، ولا يعمموا مسألة الفشل على جميع الفنانين المعاصرين.. هناك من يمدحون ويذمون في الظهر.. فمن أخفق مرة.. قد ينجح لاحقاً».
تابعي المزيد: مصممة الديكور ياسمين نور الدين: التصاميم الفرعونية سابقة لعصرها
عندما تنطفئ الشعلة
أمتع اللحظات التي يعيشها ضيفنا، هي عندما يجد الفكرة ويغوص معها في عالم الفن، ويطوّرها، حتى أنه يعيد صياغة العمل ليشارك به في معرض آخر، فبرأيه أن الشعر متقيد بأحكام، لكن ليست هناك قوانين تقيد الأفكار الفنية. يعلّق قائلاً: «عندما ينتهي العمل تنطفئ الشعلة، ولا يعود هناك مجال للتطوير، وأنا أحاول من خلال قراءاتي لمجموعة قصصية اجتماعية تتكلم عن نظرة المجتمع الغربي لغيره أن أجسدها في عمل فني، إحدى هذه القصص تحكي عن رحلة للملك فيصل رحمه الله، من كتاب اسمه «المملكة»، وأنا عندما أفكر في عمل، أركز على هدف، وأعتمد القراءة المرجعية.. ولا مكان للإحباط، هناك فكرة إن لم أتمكن من إنجازها أضعها جانباً وأتريث قليلاً، الفنان لا يمكن أن يشارك في كل معرض، وإلاّ ستنتهي أفكاره ويصاب بالإحباط، آخُذُ وقتي لأكون عملي جاهزاً قبل أن أقدمه». لا يمكن للمرأة، إلا أن تكون في أعماله الفنية، فهي أمه التي تبنت فنه مذ كان صغيراً، وزوجته التي شجعته على عرض أعماله الفنية، يستطرد قائلاً: «هي أختي وابنتي أيضاً، كما أن أعمالي لا يمكن تصنيفها على أنها ذكر أو أنثى، هي أعمال تلامس روح الإنسان، لكن علاقة المرأة بسجادة الصلاة التي توجد كثيراً في أعمالي أقوى؛ لأنها لا تصلي في الجامع».
«الصّمت»
يفخر ضيفنا بالسعوديات المبدعات، منذ البدايات، فقد وجدن فرصتهن، التي أعطتهن إياها حكومتنا الرشيدة، برأيه ربما أكثر من الرجال، لكن هذا شيء يفرحه؛ لأنهن تغيّبن طويلاً عن الساحة، يستدرك قائلاً: «هنّ قيّماتٌ فنياتٌ متحدثاتٌ ومتخصصاتٌ، وهذه المنصة التي يقفن عليها إلى جانب الرجل، ليست موجودة في أي مكان من العالم. وقد وضعت على عاتقنا مهمة المواكبة، قضيت 4 أيام في «نور الرياض» وأنا أتنقل من مكان إلى آخر لأستكشف كل الأعمال الفنية... لكن على الفنان أن يعطي العمل الفني حقه؛ لأن هذا الحق للبلد أولاً... تثيرني المنافسة الكبيرة بين فناني الجيل الجديد الذي درس الفنّ وأبدع».
للفنان سلطان مشاركات فنية في بينالي الدرعية ودزيرت إكس العلا، وهذا يجعله مشغولاً؛ لأنه يأخذ الأمور بروية، في أجواء من «الصمت»، فهو كما يقول، يتشتت بسهولة، يعلّق قائلاً: «عادة ما أستمع للأغاني من الراديو، أحب أن تفاجئني النغمات من دون أن أختارها».
تابعي المزيد: المعماري والمصمّم شريف علي: «المنازل الذكيّة» أصبحت حاجة