بيت الاحتمال

د. سعاد الشامسي 
د. سعاد الشامسي
د. سعاد الشامسي

هدم الجيران بيتهم، ثم بدؤوا ببنائه من الصفر، يبدو أنهم يودون دفن الماضي؛ لأني رأيت والدهم ينوي أمراً مع المهندس بسرية تامة.

كان المهندس سريعاً في أوامره، والعمال في ذروة نشاطهم، والضجيج ينهش رؤوسنا، لكننا جيران، بيتنا بيتهم على حد زعم أبي!

انتهوا أخيراً من دق العمدان، وصبة البيت ليثبتوا منزلهم، وهم لا يدركون أن ما يثبت المنازل هو الحب وتقوى الله، لا شأن لي في هذه المواضيع، ولكني خبير.

فها نحن على الطابق الخامس، ولكننا غير ثابتون مطلقاً! لا ينقصنا الحب، بل تنقصنا طريقة للتعبير عنه، لا تنقصنا معرفة الله، ولكن تنقصنا صحبته في كل وقت وحين.

خشيت أمي أن يرثون الهواء عنا، وأن نفقد مساحتنا؛ لأنهم يصعدون إلى الطبقة الثانية ليصبحوا مقابلاً لنا بعد أن اعتدنا على الفراغات الخضراء الشاسعة، لكنهم خبّؤوها في جيب النافذة الواسعة.

قديماً، كانت تواسينني الأصوات التي تصدر من بيتهم، صوت فوضى المطبخ، ضحكات الفتيات، وغناؤهن، وضربات السكاكين، وتكسير الأكواب الزجاجية، وصراخ الأب وصمت العائلة بعده.

يخطر على بالي وقت سماعي لفوضى المياه قلبي الذي يحتاج إلى غسل وتنقية الشوائب التي طالته.

في كل ليلة أسمع الصمت، أعترف بالتعب، وأن لا وجه لي لأصل إليها، وأنني بيت لجميع الاحتمالات.

لم تعد الأغنيات المنسابة من مطبخهم إلى نافذة غرفتي، انتهت كل الأصوات الأنثوية التي سمعتها وعشقتها في ليالٍ تخيلت نفسي فيها فارس الغرام.

أخبرت صديقاً لي يشاهد أفلام رعب كثيرة عن غياب صوت الفتيات، فصرح لي بما يجول في دماغه، اتصلت بالشرطة، وأبلغتهم عن احتمال أن رجلاً من الحي قتل ابنته صاحبة الحنجرة القوية، وسألوني عن سبب لاحتمالي، فقلت:

اختفى صوت الفتاة التي كانت تُغني في المطبخ.

صدى الضحكات أعلى من صراخ السكاكين على رقاب البنات.