تذكر أنهم كانوا أطفالاً

د. سعاد الشامسي 
د. سعاد الشامسي
د. سعاد الشامسي

تربينا على يد امرأة، تودعنا الوصايا، في كل خطوة مصيرية من حياتنا، منذ أول يوم في الروضة حتى حين اخترت الغربة كمشروع حياة لاحقة، توالت النصائح، قالت لي في ليلة الوداع "تذكر يا بني أن كل من تقابله كان طفلاً، وهناك عائلة أحسنت تربيته، وعائلة لم تحسن، والدنيا ستربيه أو سترميه على شاطئ الله، الذنب ليس ذنبه وحده، والفضل ليس له وحده". ضحكت من تعبيرها ولم يصبني الفضول لأسأل عن مقصدها، ولكني كلما وضعت الحياة أشخاصاً في طريق العمر الذي أسير به، تماثلت أمامي فقاعة النصيحة كأنها تخرج تواً من فم والدتي "تذكر أنهم كانوا أطفالاً يا بني".

بدأ الأمر بصاحب العمارة التي أقطن فيها حين رأيت خاطره مكسوراً وعيناه تفيضان بالدمع وسألته إن كان يواجه مشكلة، فأشار لي بالنفي، أكملت طريقي وأنا أردد كلمة أمي "تذكر أنه كان طفلاً" ونسيته حين وصلت للوجهة المقصودة، وحين عدت للبيت وجدته جثة متجمدة، وجدتني أردد "طفل كبير مات".

قابلت العديد من الأشخاص، منهم من عاملني بلطف مشكوك فيه، ومنهم من صفع الباب في وجهي قبل حتى أن أطرقه، ومنهم من أغلق الباب على أصابعي بعد أن فتح لي قليلاً، كنت في كل مرة أعود للمرأة التي ربتني، كل ليلة وأروي لها تفاصيل الحياة التي اخترتها بعيداً لأنمو وحدي خارج الحديقة التي عمرتها طوال عمرها، ولكني كلما كنت أشكو لها عن الأشخاص الغرباء الذين قابلتهم تقول: حاول تخيلهم أطفالاً، وكبروا على ما رأوه، ما يُقدم على مائدتك هو ما ستتناوله يا بني!

تريد أن أغفر لهم وأن أستمر بحياتي النقية، أو على حد أختي الكبيرة التي هجرتنا "تخدعك أمك، مازالت تلفك بمريلة بيضاء وكأنه الطهر الذي سيحميك من الرذالة التي يقذفها العالم".

أحب غجرية أختي في صد الأوامر، وأحب هدوء أمي في تلقي الصد، لقد تركت ذلك العالم المتأرجح بينهما وغادرت، ولكني لا أستطيع موازنة طرقهم في التعامل مع الصورة الأولية للإنسان، هل هي صورة الشر، أم الخير، أم مزيج كما تظهره السينما العربية التي لم نُشاهد غيرها في طفولتنا؟، إن الإنسان في معركة بينهما وقد يموت من دون أن ينتصر.

في ليلة اعترض طريقي شباب مراهقون أربعة أو خمسة لا أذكر أو أني لا أعرف العد سوى للوجوه العربية، وطلبوا مني أن أتوقف، فقلت لهم إني في عجلة من أمري، فاستهزؤوا بي قائلين:

-           هل أنت ذاهب لموعد غرامي؟

            قلت هذا ليس شأنهم، فلكمني شخص على وجهي أرداني أرضاً ورأيت النجوم قد خرجت من منازلها بكثافة اليوم، تذكرت قول أمي:

-           "تذكر أنهم كانوا أطفالاً يا بني".

            قلت لنفسي: مازالوا أطفالاً!

سمعني طفل بغيض وأخذ يركل معدتي، فتذكرت أني عاصرت مواقف مماثلة، مرة في المدرسة حين تعرض لي أحد المتنمرين ومرة في الجامعة حين سلبوا هاتفي وحاسوبي الشخصي.. وكيف كانت ردة فعل أمي "سامحهم، لا تسمح لدمائهم أن تغلي في دمك".

ضحكت في وجه الأطفال وقلت: اضرب فأنا طفل لم يتعلم الحياة جيداً..

وهناك أدركت حقيقة واحدة، أن الإنسان طفلاً يكبر وطفلاً يموت، وأنا بقيت طفلاً يركض لحضن أمه حين تمد الحياة يدها عليه..

كتبت رسالة لأمي حين عدت وحددت موعداً لإرسالها، قلت فيها:

لقد آذاني العالم وأنت أسهمت في ذلك، رددي الآن بوجع "الأطفال قتلوا الطفل، واحشدي نيران العالم لتغلي في أحشائك".

انا ابن الخامسة والعشرين عاماً الذي لم يعرف ما هي صورة الإنسان الحقيقية ولا النسخ المطورة منه، وداعاً.