"يظل المرء منا سمته الصمت، يعتريه الكتمان، وهيئته السكون، إلى أن يرفعه أحدهم، محلقاً به لأعلى درجات الاطمئنان والبوح، من يفتح ذراعيه ضاماً إياه لقلبه، ويحركه في تناغم كامل صوب أبحر العشق، يظل بن آدم وحيداً، إلى أن يجد ذاك الذي يرى فيه العالم أجمع، حينها يصبح الآخر يغني عن البعض بل الكل".. تلك الجمل وغيرها، مما دونها الفلاسفة والعشاق عبر مختلف الأزمان، والعقود، مما دونته المخطوطات، والتمائم، والكتب المتواترة.. البعض ترسخ بعقولنا، والآخر مازال عالقاً بأذهاننا، نستشعره بين الحين والآخر في مجريات من حولنا. علنا نجده يوماً، أو يدفع به في منتصف ممراتنا دفعاً..
تساءلت كثيراً عمن يدعونه بـ "رفيق الروح"، هل حينما نتلاقى تجتاح أوردتي تلك الرجفة الفجائية - كمن أمسك لتوه بسلك كهربائي - أو سينظر كلانا عميقاً لأبعد نقطة داخل أبحر العينين، أم هذا المشهد السينمائي دوماً؛ بأن يوقع أحدنا بكتب الآخر، فنتصادم سوياً حينما نهم على جمعها معاً؟!..
مازالت تلك المشاهد عالقة بعقلي، لا يوجد لها إجابات واقعية!.
لكنني أعلم يقينا أنه من تتجاذب أرواحمها – بالفطرة - لا يحتاجون لكل التعقيدات المخيلة، ولا الحفلات الفارهة، ولا أن يزايد أحدنا بكم ما يشتريه ويسرفه؛ لينال رضى الآخر، كما في حياة الكثيرين، الذين وهبوا بخصائصها لعوام الناس، من أجل أمور زائلة من كسب الأموال، ونيل التعاطف، والحصول على "متابعة" أو "لايك".. كل ما يحتاجه المرء أن يستشعر ذاته في عين صاحبه لا الخوف.. أن ينظرا فيطول النظر، ويتكلما فيطول الحديث، وأن يبلغ الصمت مبلغه؛ فلا يضاهيه كل الكلمات المنمقة والأحاديث العذبة، حينها يبلغ أسمى معاني الحب والتيم.. فليس الحب بكم ما يتناول من قصائد وردية، ولا شعائر نثرية، ولا بخلوه من أتلال المشاكل والتعقيدات، بقدر أن تبقى مطمئناً أنك لن تبلغ تلك الجبال العاتية إلا ممسكاً بذات من تآلفت، الذات التي تبيت وتصبح في قلب صاحبها.
وإن أشد ما يحتاج إليه المرء، تلك الرفقة التي تحول بين زلل أخمص الرجل، وتنتشل المرء انتشالاً من اليأس. وتهديه كتفاً يسع ركون الرأس، وعقلاً غير مبالٍ بالأمس، وعيناً يبصر فيها جمال النفس، ونفساً متزنة خالية من شرود الفكر..
لكن الأسى الحقيقي من لم ينتقِ ذات الصحبة، من أفنى نفسه وأهدر سريرته؛ بكل عابر متلاعب بمشاعر القلب، فبات مستباحاً لكل خائن، ولم يفطن بتفرقة زائر شوق من ثائر، فما هدأت عين، ونام ساهر، وما ضمد جرح غائر..
لتعلم يا قلب أن الخيرة دوماً في أقدار الله، فلا تتسارع، ولا تستعطف، ولا تودي بنفسك بين ذات الطالحين. فتمهل، واستخر، وانظر إلى آثار رحمات الله فيمن حولك. فإن استشعرت الرحمة؛ وغلبتك المشيئة؛ جزيت بجميل كرمه، وتمكينه لك فيما تريد وقتما يريد، وليعلم كل منا لمن يركن!..