تلجأ شركات الأزياء التجارية والدور الكبرى إلى تبني معايير الاستدامة، ليس فقط لأسباب بيئية وأخلاقية فحسب، بل لأغراض تسويقية، فالمستهلك بات أكثر وعياً في هذا المجال الحيوي، لكن السؤال الأكبر الذي يطرح نفسه: «من يحاسب من؟» في عالم يتقاسم مسؤولياته مثلث مصانع الأقمشة ودور الأزياء والمستهلك، الذي تطلق عليه عبارة المستهلك الأخيرEnd user.
whomademyclothes #
«هناك اليوم ما يكفي من الملابس لقضاء حاجات ستة أجيال بشرية» مجلس الموضة البريطانية British Fashion Council لقد أضاءت مواقع التواصل الاجتماعي على أهمية الاستدامة، وأطلقت هاشتاغ بعنوان whomademyclothes#، لتشجيع الدور على مبدأ الشفافية في صناعة الموضة. كما أقيم معرض في إبريل الماضي يحمل عنوان «أسبوع الموضة المتمردة»، للتأسيس لموضة متزنة ولنظام أكثر عدلاً بالنسبة للناس وللكوكب الذي نعيش فيه. يتسبب قطاع الموضة بنسبة كبيرة من انبعاثات الكربون، ومن استهلاك المياه، وإتلاف بقايا القماش، والملام الأول هو الموضة السريعة Fast Fashion التي تلحق أضراراً جسيمة بالبيئة.
تحاول المتاجر الكبري التجارية تبني استراتيجية الاستدامة على طريقتها الخاصة، ووفق معيارها تعيد تدوير الصناديق والأكياس وبطاقة الثمن وأجهزة الانذار الموجودة على القطع، وقد طرح البعض منها اعتباراً من العام 2025 مشروعاً يقضي بحصر استخدام القماش على المواد المستدامة فقط، وغاب عن ذهنهم أن الموضة السريعة تعني الاستهلاك السريع وفقدان معايير الجودة، لتكثيف الإنتاج وتوخي الربح السريع.
ثمة الكثير من التناقضات الحاصلة في هذا المجال، والتي سيحدثنا عنها المصمّم روني الحلو، المعروف بتبنّي هذه الاستراتيجية بالتعاون مع منظمات دولية منذ أكثر من عشر سنوات.
تعرّفي على مصمّمات عربيّات يرفعن أعلام الاستدامة Sustainable Fashion
Ask The Designer
الاستدامة التسويقية خطوة ناقصة ولا أخلاقية
منذ العام 2011 انضمّ المصمّم روني الحلو Rony Helou إلى جمعيات تُعنى بإيواء القطط المشرّدة والحيوانات الضالة، وتولد لديه احترام كبير لحياة الحيوانات، وتعاون مع منظمات مدنية للدفاع عن الطبيعة. وعن دراسته في لندن التي غيرت مفهومه للموضة يقول: «عندما درست التصميم اكتشفت الفرق الشاسع بين حياة التصميم المترفة والقضايا الحيوية التي تحرّكني. في العام 2019 ذهبت إلى لندن لأتابع اختصاصي، وقررت حينذاك أن أصمم لرسالة هادفة، وعندما عدت إلى لبنان صورت تصاميمي فوق مكب للنفايات، فلاقت الفكرة رواجاً أهلني للمشاركة في حدث »فاشن تراست أرابيا».
وقد طرحنا عليه بعض الأسئلة الحيوية فأجابنا بما يلي:
ما الدور الذي تلعبه منظمة «بيتا» لتبني الدور استراتيجية استدامة مسؤولة؟
تلعب المنظمة دوراً فعالاً بالنسبة لتصاميم الأزياء والمستحضرات التجميلية. وقد أطلقت تي-شيرتات مصدقة من Peta بأنها نباتية وعضوية، وهي شهادة ضرورية لتوثيق المصداقية. وأنا بدوري أستعلم عن القطع التي أبتاعها كي أختار ما يناسبني منها. وبيتا تعنى أيضاً بحقوق الحيوان، وتؤيد سعينا لمكافحة ما يسمى بـ Greenwashing والعمل على إعادة تدوير قطع قديمة، وعدم التغاضي عن عمالة الأطفال، وتحسين الظروف المأساوية التي يعمل فيها العمال لتنفيذ السلع الاستهلاكية. وتكمن أهمية تلك المنظمات في أنها تكوّن «لوبي» Lobby للضغط على الدور العريقة للتوقف عن استخدام الفرو أو الجلد العائد لحيوانات نادرة.
كيف تفهم الاستدامة؟
الاستدامة هي أسلوب حياة، أي كيف أتصرف لأجنّب البيئة المحيطة بي الضرر، وهي نظرة واقعية تحاكي الواقع الملموس، فلا يمكنني المجاهرة بالاستدامة واستخدام الفرو الحقيقي، ولا يمكنني استخدام قماش ومواد معادة التدوير والعمل مع مصانع تسير بموجب لا أخلاقي مع العمال، وأنا أتكلم عن عمالة الأطفال في الصين وغيرها. الاستدامة شاملة وغير انتقائية، وتحترم الناس والبيئة والحيوان.
استدامة في سبيل التسويق؟
وفي موضوع استغلال الاستدامة كنوع من «ترند» لزيادة المبيعات والأرباح، يقرّ المصمم روني بما يلي: «هناك بعض الدور الكبرى التي تدعي الاستدامة، فتلجأ إلى تصميم أزياء من عبوات بلاستيكية لتذهب المياه التي نغسلها بها إلى البحر، فتسجل الضرر ذاته. إذا كان الهدف عدم رمي البلاستيك في المحيط، فهذه خطة فاشلة لأن غسل الأزياء المصنوعة من البوليستر تضرّ بالبيئة. والحلّ يكون يإعادة تدوير وتصنيع قطع لا تصب في البحر، كتصميم مقاعد للحديقة العامة، أو مجسّمات توضع في الطبيعة».
أين المصمّمون العرب من كل ذلك؟
الاستدامة استراتيجية مكلفة، تفترض مختبرات خاصة لتطوير أقمشة ومواد على مثال ما تنتهجه ستيلا مكارتني لتحقيق استراتيجية Zero Waste. وفي الغرب يتلقى المصممون الدعم من الدولة لتبني هذه الاستراتيجية، والمصممون العرب ينفقون من جيوبهم الخاصة لتصميم مجموعات أو قطع مستدامة، لأن الدولة غير مهتمة جدياً بالاستدامة، ونفتقر إلى معامل متخصصة لتصنيع هذه الأقمشة، لذا فكلفة استيرادها يشكّل عبئاً إضافياً على الدور. أضف إلى ذلك يوجد نقص في الوعي لدى المستهلك الذي يستغرب ثمن التصاميم المستدامة الباهظ مقارنة بالتصاميم التجارية التي يعج بها السوق.
Acting Responsibly
المسؤولية من أعلى الهرم
لم يعد من الجائر في القرن الواحد والعشرين أن تزدهر مجموعة مؤسّسات على اختلاف مجالاتها، من دون أن تضع في أعلى سلّم أولوياتها إلى جانب تحقيق الربح المادي، استراتيجية تضمن التصرّف بمسوؤلية تجاه عدد من المبادئ التي تتبعها السياسات الدولية، مثل المسؤوليات الاجتماعية، والبيئية، والأخلاقية، والإنسانية... وبالطبع لا تخرج عن هذه القاعدة المجموعات الكبرى المالكة لأكثر علامات المنتجات الفاخرة شهرة، مثل مجموعتي LVMH، وKering.
فقد جعلت LVMH التنمية المستدامة أولوية استراتيجية منذ تأسيسها، ويؤكد على ذلك رئيس مجلس الإدارة برنارد أرنو Bernard Arnault بقوله: «يعتمد نجاح LVMH على احترام القواعد والممارسات والمبادئ المشتركة التي توجه السلوك اليومي لأنشطتنا التجارية في كل مكان في العالم من حيث الأخلاق والمسؤولية الاجتماعية واحترام البيئة.» وتشكل قواعد السلوك الخاصة بشركة LVMH إطارًا أخلاقيًا مشتركًا للمجموعة ودورها، وتشمل بعض القواعد التي يجب على كل موظف اتباعها في أداء واجباته.
أما مجموعة Kering، فهي تعتمد سياسة «صناعة رفاهية الغد» Crafting Tomorrow’s Luxury. وفي هذا الشأن يقول رئيس مجلس إدارة Kering، فرانسوا هنري بينولت François-Henri Pinault: «الرفاهية والاستدامة هما نفس الشيء.» فالاستدامة هي في صميم إستراتيجية المجموعة بقدر ما هي في صميم رؤيتها الإبداعية والحديثة للرفاهية. لهذا أطلقت عددًا من المبادرات لضمان حماية واستدامة الموارد الطبيعية. وأطلقت Kering ميثاق الموضة Fashion Pact في قمة G7 في عام 2019، في بياريتز، فرنسا، وهو تحالف عالمي من الشركات في صناعة الأزياء والمنسوجات بما في ذلك المورّدين والموزّعين، وجميعهم ملتزمون بنواة مشتركة من الأهداف البيئية الرئيسية التي تهدف إلى تقليل التأثير البيئي للصناعة. للحفاظ على كوكب الأرض، تلتزم جميع شركات الميثاق بثلاثة مجالات رئيسية: وقف ظاهرة الاحتباس الحراري، واستعادة التنوع البيولوجي، وحماية المحيطات. ميثاق الموضة هذا يدور حول الجهد الجماعي وانطلاقاً من هذا المبدأ، تستثمر غوتشي Gucci، بدعم من Kering، في أول مركز جامعي دائري Circular Hub لتشغيل ما سميّ بـ «الصناعة الإيطالية الدائرية» Circular Made in Italy. سيعزز هذا المركز Hub تسريع التحوّل الدائري للأزياء الفاخرة.
ننصحكِ بالاطلاع على إيقاع الشرق Orientalism
Ask the Brand
خطوة جدية على طريق الاستدامة
منذ العام 2000 وقبل عقدين من الجائحة، أبصرت دار بقجة Bokja النور في لبنان، على يد سيدتين هما هدى بارودي وماريا هبري، والهدف لم يكن الحفاظ على حرفة التطريز فقط، بل استعمال القماش القديم والاستعانة بمواد فنتدج لابتكار قطع من الأثاث عبر اتباع استراتيجية Zero Waste، واليوم تطلق الدار مجموعة متكاملة من الأزياء المستدامة والمحدودة تحت عنوان Fragility. وتخبرنا السيدة غلاديس صليبا، المديرة العامة للدار، إنها لا تطلق على تصاميم بقجة عبارة تصاميم مستدامة، بل «تصاميم أخلاقية مسؤولة، لأن الاستدامة أسلوب حياة وأخلاق». فالقماش المصنوع من القطن والكتان والحرير العضوي مستورد، لأن البنى التحتية غير مجهزة في لبنان لتصنيع قماش عضوي، لذا يتم الطباعة على القماش عبر أجهزة صديقة للبيئة في إيطاليا، واستيراد الكتان من إسبانيا، والقطن من الهند. وما يميز التصاميم لديهم هي مكنات الحياكة المتوارثة منذ نحو قرن، وتستمر الدار بالعمل بها في تصنيع الأزياء التي تحمل رسالة.
وتوضح السيدة غلاديس عنوان محور التصاميم Fragility فتقول: «بعد انفجار المرفأ في بيروت، بتنا هشّين، لذا عدنا إلى أرشيف الدار، واستعرنا من جهاز العروس، أي «بقجة العروس» أقمشة الدانتيل المطرزة، واستوحينا من هذه الأعمال الحرفية لتنفيذ 40 قطعة بكلفة مقبولة، ونحن نسميها Wearable Fashion لأن الهدف ليس إطلاق مجموعات، بل تغيير أسلوب حياة واعتماد ما نسميه بالموضة البطيئة Slow Fashion التي لا تموت». أما إذا كانت الدار قادرة على المجاهرة بكونها تطبق معايير الاستدامة بالكامل، فتنفي السيدة غلاديس الموضوع، لأن الاستدامة تبدأ ليس فقط من المواد المستعملة وطريقة التصنيع، بل من الموظفين وطريقة الشحن والتوضيب، فهو عمل متكامل، ونحن أنجزنا خطة جدية على أمل أن تكتمل مع توافر البنى التحتية، والوعي الكافي لدى المستهلك».
Greenwashing
الاستدامة الانتقائية
على غرار المتاجر الكبرى التي تدعي الاستدامة الكاملة، هناك الماركات الرياضية مثل ليفايس Levi’s التي تستخدم الدنيم المستدام والذي يدوم للأبد، وأهم منتج يلبي هذه المواصفات سروال ليفايس 501 الذي تم تنفيذه منذ 150 عاماً، وأعيد إنتاجه مؤخراً مع رغبة الدار في تطوير نفسها لتواكب الشباب أكثر. كما تخطط بعض الدور للحد من استعمال المياه عبر تقنية Water loss Technique. وقد انضمت إليها أديداس Addidas في النهج ذاته مع إعداد مخطط سيكون سارياً في العام 2025 للتقليل من انبعاثات الغاز في الجو بنسبة 25%، وهي خطوات جدية، ولكنها لا تكفي للإعلان عن استدامة مطلقة.
Ask the Stylist
من يحاسب من؟ دور الأزياء أم المستهلك؟
يوضح لنا خبير الموضة إلياس شدراوي، وهو منسق أزياء واستشاري مظهر، أنه منذ انتشار الجائحة في أواخر العام 2019، بدأت عبارة الاستدامة تتردد بقوة، وبات العالم يتجه نحو استراتيجية تحافظ على الكوكب، ومن الطبيعي أن يتأثر قطاع الموضة بالأمر، فالأقمشة باتت مصنّعة من مواد نباتية، كقشر الموز والأشجار والتفاح وبذور طحالب البحر، والجلد بات يصنّع في مختبرات، فلقد تطور مفهوم الاستدامة ليشمل ليس فقط تدوير القماش، بل بات أسلوب حياة بكامله، ينجم من مبادئ أخلاقية مسؤولة في مجتمع بات الكوكب فيه مجرد قرية كونية.
إن هذه الانبعاثات الغازية المتأتية من ألياف الكربون نتيجة تصنيع الملابس، حملت الدور إلى إعادة هيكلية التصنيع، لتنفيذ تصاميم عضوية من دون ترك بقايا للتلف، وخلفت بدورها ردة فعل لدى المستهلك النهائي، الذي تحتم عليه البحث عن إجابات لعدة أسئلة:
كيف يتم تصنيع القطع، وأين ومم هي مصنوعة؟
يجب على المستهلك أن يتمسك بقواعد أخلاقية في الشراء، عن طريق اعتماد دور تتبنى معايير الاستدامة ولا تجاهر بها فقط. يمكن للمستهلك ان يستأجر الزي فلا يشتريه فقط، عن طريق مواقع تسوق أو تطبيقات إلكترونية، تعتمد البيع الإلكتروني. اليوم تتجه الموضة إلى الموضة النباتية، وهنا يأتي دور منظمة Peta التي تحارب استغلال الحيوان وتشجع على الصناعات النباتية التي لا تؤذي الطبيعة، فالإسراف في التصنيع Over Production مؤذ تماماً كالإسراف في الاستهلاك Over Consumption.
أما بالنسبة للمصممين العرب، فينفي إلياس شدراوي وجود خطوات جدية لتطبيق الاستدامة، لأنهم ينفذون ملابس معدة حسب الطلب من خط الكوتور أو خطّ Prêt A Couture، فالملابس التي ينفذها المصممون لا تقترب من طابع الستريت ستايل، لذا لا نستطيع التكلم عن Mass Production كما هي الحال مع متاجر كبرى عالمية. كما أن ملابس الكوتور والأقمشة التي تليق بها يجب أن يتم استيرادها من الخارج، ما يتطلب عناء الوقت والكلفة.
وفي خضم كل هذه الأمور أين يقف المستهلك؟
يشرح لنا إلياس شدراوي أن المواطن العربي بشكل عام لا يعي مخاطر الموضة السريعة والملابس التي يبتاعها بثمن منخفض ويرميها بعد 4 أو 5 مرات، على البيئة. ما نريده اليوم هو ملابس بنوعية جيدة وشراء أقل، وليس العكس، ويشتري البعض من دون النظر إلى مكونات القطعة، رغم معرفتهم بموضوع الاستدامة، وخاصة فئة الشباب.
وانطلاقاً من كل هذه المعطيات يمكننا القول إن المسؤولية تنقسم ما بين الدور والمستهلكين، ويجب رفع الوعي والتنبيه عبر حملات توعية وورش تدريبية، وإلا فالاستدامة ستبقى مجرد «ترند» نتغنى به ونفصّله كما نريد وقتما نشاء وحين تسمح الظروف.
يمكنك الاطلاع على الشمولية والتنوع في عالم الأزياء Inclusivity in Fashion