بعد أن كانت الموضة لعقود متتالية تتوجّه لشريحة معيّنة من المتلقّين، باتت اليوم أكثر شمولية وإنسانية لتخاطب كافة شرائح البشرية. وبات القيّمون على هذه الصناعة مدركين أهمّية إضفاء البعد الإنساني على رسالتهم وإنتاجهم، كما حرصوا على ضمّ مجموعات لطالما كانت مهمّشة. ليعتمد بذلك عالم الأزياء مبدأ الشمولية والتنوّع، حتى أنّه أصبح في بعض الأحيان يحتلّ حيّزاً كاملاً في العروض والتسويق الإعلاني. في هذا التقرير، لنا جولة على أمثلة عديدة لتصدّر العارضات «المختلفات» مشهد الموضة، كما وحوارين أجرتهما «سيدتي» مع المصممتين ساره بيضون وتالين أرسلانيان، لنؤكد أن الموضة ربما تكون هروباً من الألم، وفي بعض الأحيان هي دواء ناجح له، ولكنها تلوّن أيامنا الرتيبة بريشة الإبداع، لتغدو المصائب أقل وطأة، ولتلقّن البشرية دروساً عميقة في التكاتف والتعاضد...
Wake-up Call
عين الموضة على المتميزين
تغيّر عالم الموضة وأصبح مساحة جديدة للتنوع، وصار القيّمون عليه يخاطبون الإنسانية بكل أوجهها. فبتنا نرى اليوم عارضات أزياء يتميّزن بتحدّيات خلقية وجسديّة. جميلات هنّ، تجرّأن على تغيير واقع عالم الأزياء بكسرهنّ الحواجز وتحويل التفكير النمطي لتغدو الموضة أكثر إنسانية وأقرب إلى واقع الناس.
نبدأ من صوفيا جيراو Sofia Jirau، وهي أول عارضة أزياء تصدّرت عناوين الصحف العالمية بكونها أول وجه إعلاني مصاب بمتلازمة داون، وقد ظهرت في حملة لعلامة فيكتورياز سيكريت Victoria’s Secret، لتحقق بذلك حلماً راودها منذ الطفولة.
وتنضم إلى هذا العالم أيضاً جيليان ميركادو Jillian Mercado التي بدأت حياتها المهنية كطالبة في معهد الموضة في نيويورك. وبسبب إصابتها بالحثل العضلي (وهو ضمور سببه مجموعة من الأمراض التي تُسبب ضعف العضلات وفقدان الكتلة العضلية تدريجياً)، تستخدم ميركادو كرسياً متحركاً، وهي اليوم واحدة من أبرز العارضات ذوات الإعاقة الجسدية. عملت جيليان مع العديد من ماركات الأزياء الشهيرة، مثل ديزل Diesel، أو المتجر الأمريكي نوردستروم Nordstrom. حتى أنها ظهرت في حملة للترويج لموسيقى بيونسيه Beyonce.
إلى العارضة الأميركية ريبيكا مارين Rebekah Marine المولودة بدون ذراع يمنى مستبدلة بذراع إلكترونية. تلاقي ريبيكا اليوم نجاحات مستمرّة على منصات الموضة في جميع أنحاء العالم، خصوصاً بعد مشاركتها في أسبوع الموضة في نيويورك، عام 2015.
بدورها تتميز عارضة الأزياء الأمريكية من أصل أفريقي دياندرا فوريستDiandra Forrest بكونها أول عارضة أزياء ألبينو يتم تمثيلها من خلال وكالة عرض أزياء رئيسية Skorpion MGMT. وقد ظهرت على غلاف مجلة Ebony، وشاركت كانيي ويست Kanye West في فيديو Kanye “Ye” West.
كذلك أحدثت مادلين ستيوارت Madeline Stuart ثورة في عالم عرض الأزياء، فقد تسنّت للعارضة الأسترالية البالغة من العمر 19 عامًا في 2015، فرصة المشاركة في أسبوع الموضة في نيويورك. بعد ذلك تعاونت مع علامة مانيفستا Manifesta للياقة البدنية، كما وأصبحت أول عارضة أزياء مصابة بمتلازمة داون تحصل على تعاون مع علامة تجارية للتجميل وهي غلوسيغيرل Glossigirl.
ولكن تبقى ويني هارلوWinnie Harlowe التي تعاني من البهاق هي التي كسرت حواجز الصورة النمطية لعارضة الأزياء. فقد لاقت ترحيباً عاماً حين شاركت في عروض الأزياء حول العالم وظهرت في حملات للعلامات التجارية البارزة مثل فندي Fendi، وتومي هيلفيغر Tommy Hilfiger، ومارك جايكوبز Marc Jacobs، وفيكتورياز سيكريت Victoria’s Secret. وقد فتحت ويني الطريق أمام العديد من ذوي التحديات البدنية والخلقية ليحضنهم عالم الجمال والإبداع من دون شروط وتمييز.
تعرّفي على عالم الباليه الحالم
Inclusive Modelling
احتضان التنوع
يحتضن عالم عرض الأزياء التنوع وكسر الصور النمطية التقليدية، ليغدو أكثر شمولية ويكسر بذلك المعايير المجحفة التي هيمنت على الصناعة لفترة طويلة جدًا.
احتفاءٌ بمختلف أحجام الجسم
من أبرز جوانب الشمولية وتمكينها هو الاحتفاء بمختلف أحجام الجسم. ففي الماضي، تأثرت صناعة الأزياء في الغالب بنموذج جسم نحيل جدّاً وغير واقعي. ولا يمثل هذا التحوّل تحدّياً لمعايير الجمال غير الواقعية فحسب، بل يعزز أيضاً إيجابية الجسم وقبول الذات. بذلك يرسل القيّمون على عالم الموضة اليوم رسالة قوية إلى الأفراد الذين كانوا يشعرون منذ فترة طويلة بأنهم مستبعَدون أو مهمَّشون بسبب أشكال أجسامهم. وباتت الصناعة اليوم توفّر منصّات للأشخاص لرؤية أنفسهم ممثّلين في الأزياء ووسائل الإعلام. هذا التمثيل ضروري لتعزيز فكرتَي القبول وحبّ الذات، حيث يمكن للأفراد أن يدركوا أخيراً أنّ أجسادهم جميلة وتستحقّ الاحتفاء بها. كما وتنضمّ إلى مجموعة الأحجام المختلف، العارضات الحوامل اللواتي باتت لهنّ حصّة على المنصّات مثل جيجي حديد Gigi Hadid، وأليساندرا أمبروزيو Alessandra Ambrosio، وبيانكا بالتي Bianca Balti، وآشلي غود Ashleigh Good...
احتفاءٌ بالتنوع العرقي والثقافي
إضافة إلى ما سبق، يحبّذ عالم الموضة اليوم التنوّع العرقي والثقافي. وفي هذا المضمار تتخذ وكالات الأزياء خطوات لإعطاء الأولوية للتنوّع والشمولية، فيما تبذل جهوداً لتوظيف وتمثيل نماذج من خلفيات عرقية متنوّعة، مع الاعتراف بأهمّية الشمولية في الصناعة. ومن خلال الاعتراف المتزايد والاحتفاء بالتنوّع العرقي والثقافي تمّ اتّخاذ خطوات إيجابية تدفع بعالم الموضة إلى الأمام، كلّ ذلك من خلال تبني عارضات أزياء من خلفيات عرقية وإثنية مختلفة. وفي طليعة العارضات من إثنيات مختلفة عن البشرة البيضاء، برزت السوبرموديل نعومي كامبل Naomi Campbell، وتبعتها حليمة عدن Halima Aden، وغيرهما.
تعزيز التنوع العمري
يشمل نهج الشمولية في عالم صناعة الموضة تبنّي عارضات للأزياء من جميع الأعمار. ويتحدّى هذا النهج التفرقة العمرية، ليحتفي بالجمال والنعمة اللذين يأتيان مع تقدّم العمر. وبتمثيل العارضات اللواتي يزيد عمرهنّ عن 35 عاماً، تتحدّى الدور التمييز ضد الشيخوخة، وتوفّر فرصاً للعارضات من الأجيال الأكبر عمراً لعرض مواهبهن وجمالهن الفريد. وأبرزهنّ عارضات التسعينيات السوبرموديل اللواتي احتللن منصة فرساتشي Versace، في ميلانو عام 2017، احتفالاً بذكرى وفاة جياني فرساتشي العشرين.
ننصحكِ بالاطلاع على جواهر بمعايير أخلاقية عالية
Ask The DESIGNER
معاً لتحسين ظروف السجينات
لا يختلف إثنان على أنّ الوجه المشرق والمضيء لعالم الموضة، لا يكمن في مجرد خطوطها وتصاميمها، بل بقدرتها على إدخال الفرح وبث الطاقة الإيجابية، تماماً كما يبسط شعاع الشمس نوره في ساعات الصباح الأولى.
وخير دليل على ذلك، تجربة المصممة سارة بيضون Sarah Baydoun، التي دخلت «دار الأمل» لتأهيل النساء كطالبة في علم الاجتماع، وخرجت منها بفكرة تشغيل هؤلاء النساء اللواتي خرجن من السجن أو لا يزلن تحت العقوبة، عن طريق تعليمهن حرفة الحياكة لتنفيذ الحقائب التي بدأت تصمّمها سارة في العام 2000، فيكسبن بذلك قوتهن ويحسنّ من ظروفهن الحياتية.
وهكذا ساهمت سارة بيضون عن طريق تدريبهن وضمهن إلى طاقمها في تحسين ظروف السجن الذي تختبره هؤلاء النسوة، وفي إعالة أبنائهن بطريقة لائقة، كما طلبت من أولائك السيدات تعليم غيرهن من الراغبات في إتقان حرفة وكسب لقمة العيش في القرية التي يعشن فيها. تلك الحقائب التي حملتها كل من الملكة رانيا العبد الله، وبيونسيه Beyonce، ليست مجرد إكسسوار جيد النوعية، بل جواز سفر إلى حياة جديدة ملؤها الأمل لسيدات منبوذات خسرن فرصة الحياة الكريمة، فوهبتهن الحياة عن طريق سارة فرصة أخرى لإصلاح ما تم إفساده. هي فرصة ثانية للتعلم من أخطاء الماضي مع كل غرزة إبرة أو كل خرزة ملونة تثبّت على حقيبة. واليوم توسّعت Sarah’s Bag لتشمل القفاطين وفساتين البحر والأوشحة والإكسسوارات المرافقة للحقيبة. ومن أهم التعاونات ما أطلقته الدار اللبنانية في العام 2022 مع علامة كلوي Chloe التي التقت مع سارة تحت شعار «تمكين النساء والشغف بالحرف اليدوية»، فتم تجديد حقيبة كلوي Chloe الأيقونية المسماة Woody، وتم تنفيذها من الكروشيه والخشب، مع الحرص على إدخال مواد حديثة مثل الراتينج Resin والبيرسبيكس Perspex التي باتت من هوية الدار. كما انضمت مؤخراً ملك، شقيقة سارة، إلى الطاقم وهي التي درست تسويق الأزياء فارتقت العلامة إلى مصاف العالمية.
Ask The STYLIST
من مصابة بالسرطان إلى مصممة حقائب... تجربة نجاح يمتزج فيها الألم
ومن قصة نجاح إلى أخرى، وضمن عالم الحقائب، ننتقل إلى خبيرة الموضة تالين أرسلانيان Taline Arslanian، التي حولت صراعها مع مرض السرطان إلى تجربة نجاح تخطت مرحلة الألم والمعاناة التي مرت بها لسنوات، وغمست إبرتها بخيوط من الدم لتطرز على حقائبها عبارات أمل بالحياة، تتضارب مع كل ما تعيشه من مشاعر يختلط فيها القلق والصبر، والوجع والفرح، والأمل بالغد، والخوف من المجهول. قصة تالين لا تشبه غيرها، وسنتركها تروي سطور حياة بدأتها بتراجيديا لتتكلّل بالنهاية السعيدة...
«في عام واحد اكتشفت إصابة زوجي بمرض السرطان، وبدأت رحلة الجراحة والعلاج الكيميائي، لأكتشف بعد فترة وجيزة أنني مصابة بدوري بسرطان الثدي. كنت أماً لطفلين: الأولى في الرابعة، والثاني في العاشرة من العمر، ووجدت نفسي أخوض معركة، ليست مع السرطان وحده، بل معركة بصمود وسط مشاعر الخذلان التي شعرت بها بعدما تخلى عنا أنا وزوجي كل الأهل والمعارف. وفجأة فرغ المنزل من ضحكاته المعهودة، فلم يبق سوانا والطفلين. كنت أذهب إلى العلاج لوحدي، من دون سند أو رفيق قادر على تأمين الدعم العاطفي لي في جلسات العلاج. لقد علمتني هذه التجربة أن أتكل على نفسي، فقررت، بما أنني درست الموضة، إطلاق علامة تجارية باسمي للحقائب».
لماذا قررت تصميم الحقائب دون غيرها؟
لقد حلمت بأنني سأنجح، وكان إيماني كبيراً بالله وبقدراتي، ولا أستطيع القول إن إيماني تضاعف لأن ثقتي بالله كانت بلا حدود منذ البداية، وعلمت بأنه لن يتركني. كنت أصمم وأضحك، ولم أفقد حبي للحياة، فلدي عائلة أحبها وسأكافح لأعيش.
ما الذي تعلمته من تجربتك مع مرض السرطان؟
تعلمت الكثير من الدروس.. هي كثيرة لدرجة أنني غير قادرة على إحصائها، وهي: الإيمان بالله، عدم الثقة بمخلوق، الاتكال على الذات والصبر، والأهم هو التعالي على الألم، فلقد كنت أصمم الحقائب كوسيلة لنسيان ما أختبره من أوجاع في جلسات العلاج وبعدها. ومن يتابعني على إنستغرام يراني أرقص وأفرح، وأزرع البسمة حتى لدى مشاركتي في معارض دولية كمصممة. وكنت أشارك باستمرار في جلسات لأتكلم عن تجربتي كمصممة صنعت من الألم قوة.
كيف تساهمين اليوم في جعل حياة من حولك أفضل؟
عندما أشارك تجربتي أريد أن أكون قدوة، ليس فقط للنساء، بل للرجال، بأن الحياة قصيرة، ولكنها مليئة بالمفاجآت، وعندما بدأت العلاج لم يكن معي ثمن الدواء، ولكن الله وهبني الكثير، لذا أسعى للتبرع بجزء من أرباحي لدعم مرضى السرطان، وقد صممت العديد من الحقائب التي بيعت لدعم نفقات علاج لأطفال مرضى بالسرطان، ولا يملك ذووهم ثمن الجراحة وتكاليف العلاج. لقد وهبني الله الكثير، وأنا أحاول زرع الفرح بقدر استطاعتي في محيطي. وكلما أعطي يهبني الله الأضعاف بالمقابل. لذا أشعر رغم كل ما مررت به بأنني محظوظة، وبأنني ناجحة جداً، لا بل الأنجح، لأن النجاح لا يعني المال، بل السعادة والرضى.
يمكنك الاطلاع على إبداعات بأنامل حرفيي دور الأزياء