في أعماق مكة المكرمة، ترتفع قمة مشعر عرفات، وعلى سفوحها يقبع مسجد نمرة، تلك المَعلَمة التاريخية التي تحمل في جدرانها لحظات عظيمة من تاريخ الإسلام، وتنبعث منها روحانية تمتد لتشمل قلوب المسلمين من كل مكان، وعلى أرض مقدسة تتربع مشعر عرفات كواحدة من أهم المواقع الروحية في الإسلام. يتميز هذا المكان بتاريخ عظيم وروحانية تفوق الوصف. وفي قلب هذا المشعر، يقع مسجد نمرة، الذي يشكل شاهداً على لحظات تاريخية حاسمة في تاريخ الإسلام.
عمق التاريخ والروحانية
في طقوس حجٍ مليئة بالتأمل والخشوع، يتجه الحجاج إلى مشعر عرفات، ليستقبلوا يوم التاسع من شهر ذي الحجة بروح التوبة والاستغفار. وفي قلب هذا المشهد المقدس، يطل مسجد نمرة كعلامة فارقة تُشرف على جبين مشعر عرفات؛ حيث يلتقي الحجاج لأداء صلاتي الظهر والعصر قَصراً وجمعاً في وقت الظهر.
التسمية وسر الموقع
يُعرف مسجد نمرة بهذا الاسم نسبة إلى جبيل صغير يقع غرب مشعر عرفات، وتُعتبر هذه البقعة المقدسة موقعاً لخطبة الوداع التي ألقاها النبي محمد، صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع. يُعتبر المسجد واحداً من أهم معالم مشعر عرفات؛ حيث بُني في الموضع الذي خطب فيه الرسول، عليه الصلاة والسلام. ومع الوقت، تطور المسجد ليصبح محطة دينية رئيسية يؤدي فيها حجاج بيت الله صلاتي الظهر والعصر في يوم عرفة جمعاً وقصراً؛ اقتداءً بسنة الرسول، صلى الله عليه وسلم.
يقع المسجد إلى الغرب من مشعر عرفات، ويتأسس جزء منه في وادي عرنة، أحد أودية مكة المكرمة. وتعكس قصص منبر عرفة تاريخاً غنياً بالأحداث والأنباء؛ حيث يروي الأثر عن عمرو بن دينار، قال: رأيتُ منبر النبي- ﷺ- في زمان ابن الزبير ببطن عرفة؛ حيث يصلي الإمام الظهر والعصر عشية عرفة، مبنيّاً بحجارة صغيرة. وفي رواية صغار، قد ذهب به السيل؛ فجعل ابن الزبير منبراً من عيدان. وعن يزيد بن شيبان قال: كنَّا في موقف لنا بعرفة قال: فأتانا ابن مربع الأنصاري فقال: إني رسولُ رسولِ الله–ﷺ- إليكم، يأمركم أن تقفوا على مشاعركم هذه؛ فإنكم على إرثٍ من إرثِ إبراهيم- عليه السلام.
التشييد والبناء
بُني مسجد نمرة لأول مرة في منتصف القرن الثاني الهجري، خلال بداية فترة الخلافة العباسية. اهتم خلفاء وسلاطين وأمراء المسلمين ببنائه وعماراته عبر الزمن. قام الجواد الأصفهاني بترميمه في عام 559 هـ، وشهد المسجد تجديدين هامين في العصر المملوكي، الأول بأمر سيف الدين قطز عام 843 هـ، والثاني بأمر السلطان قايتباي عام 884 هـ، وقد كان هذا التجديد هو الأكثر فخامة وجمالاً ودقة في ذلك الوقت. كما تم تجديد عمارة المسجد في العهد العثماني عام 1272 هـ.توسعة هائلة: تحولات مسجد نمرة في العصر السعودي
شهد مسجد نمرة توسعة هائلة خلال العهد السعودي؛ حيث بلغت تكلفة إعادة بنائه 237 مليون ريال؛ مما جعله أحد أضخم المعالم الإسلامية حول العالم. وقد امتدت أبعاده لتصل إلى طول يبلغ 340 متراً من الشرق إلى الغرب، وعرض يبلغ 240 متراً من الشمال إلى الجنوب، مع مساحة تتجاوز 110 آلاف متر مربع. وتوجد خلف المسجد مساحة مظللة تقدر بحوالي 8000 متر مربع، بينما يتسع المسجد لنحو 350 ألف مصلٍّ. يتميز بست مآذن يبلغ ارتفاع كل منها 60 متراً، وثلاث قباب وعشرة مداخل رئيسية تضم 64 باباً. ولا يقتصر دور المسجد على العبادة فقط؛ بل يتضمن أيضاَ غرفة للبث الخارجي مجهزة بشكل كامل لنقل خطبة وصلاة الظهر والعصر ليوم عرفة مباشرة عبر الأقمار الصناعية؛ مما يجعله نموذجاً للتقدم التكنولوجي المتقدم والاهتمام بتوفير الخدمات الدينية بأحدث الوسائل المتاحة.
تابع أيضاً: شؤون الحرمين توفر أنظمة رقمية متطورة في المسجد الحرام استعداداً لموسم حج 1445هـ
تسميات متعددة
باعتبار مسجد نمرة شاهداً تاريخياً على سفوح مشعر عرفات، يبرز بوضوح كعلامة مميزة تعكس عظمة هذا الوجه المقدس للحج. يُعتبر مسجد نمرة مركزاً هاماً؛ حيث يلتقي الحجاج لأداء صلاتي الظهر والعصر جمعاً وقصراً في يوم الوقوف بعرفات؛ حيث يتجاوز عدد المصلين فيه الـ400 ألف مصلٍّ. يتمتع مسجد نمرة بعدة تسميات تعكس أبعاده الدينية والتاريخية؛ حيث يُعرف أيضاً بأسماء مثل: مسجد إبراهيم الخليل، ومسجد عرفة، ومسجد عرنة؛ ما يعكس تنوع المعاني والتاريخ العميق لهذا المكان المقدس.
المسجد في الكتب التاريخية
في سجلات الكتب التاريخية، يقبع مسجد نمرة كعلامة مهمة، تحمل عبق التاريخ وعمق الروحانية؛ حيث يُذكر بكثافة في السير والرحلات التي وثّقت تفاصيل حج النبي محمد، صلى الله عليه وسلم، وأصحابه. وعرّج محمد رشيد رضا على ذكر مسجد نمرة في كتابه "رحلة الحجاز" قائلاً: "وفي الجانب الجنوبي من العلمين يوجد مسجد نمرة المعروف بمسجد إبراهيم، بالقرب من الطريق الممتد من مِنى إلى الطائف، كما يسمى أيضاً مسجد نمرة ومسجد عرنة". وذكر الإمام الغزالي في "الإحياء": "أما مسجد إبراهيم عليه السلام- مسجد نمرة- فصدره في الوادي وأخرياته من عرفة؛ فمن وقف في صدر المسجد لم يحصل له الوقوف بعرفة. ويتميز مكان عرفة في المسجد بصخرات كبار تفترش هناك". وأشار عاتق البلادي في كتابه "معالم مكة التاريخية والأثرية" بوصف نمرة قائلاً: "جُبيل ترى غرب مسجد عرفة، ومسجد عرفة يعرف بمسجد نمرة، يفصل سيل عُرَنَة بين عرفة ومسجدها وبين نمرة، وهي على حدود الحرم. وكان رسول الله- ﷺ - ينزل في نمرة يوم عرفة، حتى إذا حان الزوال انتقل إلى عرفة".
تابع أيضاً: جولة على المساجد الشهيرة المنتشرة في الدول الأجنبية
أمر مستحب
نَمِرة ليست جزءًا من عرفة ولا من المنطقة المقدسة (الحرم)، ولكن يُفضل النزول بها بعد شروق الشمس وقبل الوصول إلى عرفة. حسب حديث جابر بن عبدالله، في وصف حج النبي ﷺ: "فأجاز رسول الله ﷺ حتى أتى عرفة، فوجد القبة قد ضربت له بنمرة؛ فنزل بها حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء، فرحلت له؛ فأتى بطن الوادي؛ فخطب الناس" (رواه مسلم). وفي هذا الحديث يتضح استحباب النزول بنمرة عند المجيء من مِنى؛ لأن السُنة النبوية تقتضي ألا يدخلوا عرفة إلا بعد زوال الشمس وبعد صلاة الظهر والعصر جماعةً.
تابع أيضاً: كيف يحتفل مسلمو قارة أوروبا بعيد الفطر؟
ختاماً
في نهاية رحلتنا عبر تاريخ وجغرافيا وروحانية مسجد نمرة، تتجلى أمامنا عظمة هذا المكان المقدس الذي لا يجسد فقط محطات تاريخية حاسمة في مسيرة الإسلام، بل يعكس أيضًا عمق الارتباط الروحي الذي يجمع ملايين المسلمين من شتى بقاع الأرض. إن مسجد نمرة ليس مجرد معلم ديني، بل هو نبضٌ حيٌّ يُحيي في نفوس الحجاج ذكريات خالدة، ويمدّ جسورًا بين الماضي العريق والحاضر الزاهر. هنا، تتلاقى الروحانيات مع التكنولوجيا، ليبقى هذا الصرح شاهدًا على قدرة الإسلام على المزج بين الأصالة والمعاصرة، ويظل نداء الإيمان يتردد في أرجائه مع كل تكبيرة وصلاة. إن زيارة مسجد نمرة تظل تجربة لا تُنسى، محفورة في الوجدان، تشحن الأرواح بفيضٍ من الطمأنينة والإيمان، وتذكرنا دومًا بأن التواضع والتضحية والاتصال العميق بالله هي الأسس الراسخة لهذا الدين العظيم.
تابع المزيد من مواد الثقافة الإسلامية: أمهات المؤمنين والقدوة الحسنة في يوم الأم 2024