يمكنني القولُ إن هذه الرحلةَ مختلفةٌ تماماً عن أي رحلةٍ سابقةٍ، قمتُ بها إلى إسبانيا، مع العلمِ أنني زرتها مراراً وتكراراً، وتجوَّلتُ بمناطقَ مختلفةٍ فيها، من أبرزها العاصمةُ مدريد، وسطَ البلاد، وطليطلة، مدينةُ الثقافاتِ الثلاثِ الشهيرة، ولا أنسى إقليمَ الباسك الرائع في الشمال. تُستثنى من ذلك المنطقةُ الجنوبيَّة، التي يُطلَق عليها «إسبانيا الأندلسيَّة»، إذ لم أزرها من قبل على الرغمِ من أنها الأكثر جمالاً بطبيعتها الجغرافيَّة المذهلة، وتاريخها العريق! لا سيما غرناطة هذه المدينةُ التاريخيَّةُ الغنيَّةُ عن التعريف، كيف لا، وهي التي تحتضنُ بين معالمها قصرَ الحمراء، الأشهر بين القصورِ في العالم.
وتحقيقاً لحلمٍ قديمٍ برؤيةِ المكان، أجريتُ أخيراً رحلةً ساحرةً إليه. انطلقتُ من منطقتنا العربيَّة، وبعد نحو سبعِ ساعاتِ طيرانٍ، وصلتُ إلى مطارِ برشلونة، ومنه أخذتُ طائرةً داخليَّةً إلى مطارِ غرناطة، وقد استغرقت مني الرحلةُ ساعةً تقريباً، لأنتقلَ فوراً إلى فندقٍ جميلٍ، هو بالاسيو جران فيا، رويال هايداواي Palacio Gran Vía, a Royal Hideaway Hotel، الذي يُعدُّ من أفضلِ فنادقِ المدينة، ويأتي من فئةِ «5 نجوم» سواءً بمستوى الضيافة، أو موقعه المميَّز في قلبِ المدينةِ على شارعِ جران فيا دي كولون. ولا أخفيكم، أعجبني، ومن النظرةِ الأولى، مبنى الفندق، الموجودُ في زاويةِ الشارع، إذ يشمخُ بطرازه المعماري الذي يعودُ إلى أوائلِ القرن العشرين فقد تمَّ بناؤه عام 1905 تزامناً مع افتتاحِ شارع جران فيا دي كولون، ويُعدُّ من المباني الأكثر رمزيَّةً بتصميمه المعماري الذي كان سائداً في ذلك الوقت بالعواصمِ الكبيرةِ بوصفه مصدرَ إلهامٍ في أوروبا. وممَّا عرفته عن المكان، أن المبنى، كان مقراً سابقاً لبنك Rodríguez-Acosta، وهو الآن، بعد عمليَّةِ ترميمٍ دقيقةٍ وطويلةٍ، قام بها المهندسُ المعماري كارلوس كوينتانيلا Carlos Quintanilla، فندقٌ بوتيكي فاخرٌ، يحظى بأجملِ إطلالةٍ، فمن الشرق، يُشرِف على قصرِ الحمراء الأثري، ومن الجهةِ الغربيَّة، يطلُّ على الكاتدرائيَّة. كذلك يحتفظُ الفندقُ بكلِّ مقتنياته التاريخيَّة، دون أن يفقد هويَّته بوصفه بنكاً بوجودِ خزائنَ أصليَّةٍ، وديكوراتٍ خشبيَّةٍ لصناديقِ الصرافة بشكلها التقليدي، إلى جانب الأرضيَّات المبلَّطة بطرازِ تلك الحقبة الزمنيَّة. أيضاً، علمتُ أن المبنى التاريخي، صمَّمه المهندسُ المعماريJuan Monserrat Vergés ، «1853-1909» بواجهتَين على شارع جران فيا دي كولون Gran Vía de Colón، وشارع سيتي مريم Cetti Meriem، وهو يتكوَّن من طابقٍ سفلي، توجدُ فيه خزائنُ وملفَّاتُ البنك، في حين تتألَّف الطوابقُ العليا من مساكنَ فاخرةٍ، تقيمُ فيها عائلةُ رودريجيز أكوستا. ومن الجميلِ في الفندق، أنه لا يزالُ يضمُّ أعمالاً فنيَّةً أصليَّةً، بينها قطعٌ من أصلٍ مدجَّنٍ من القرنِ الـ 16، ومجموعةٌ نحتيَّةٌ، ولوحاتٌ من العصرِ الحداثي، إلى جانب قطعِ زجاجٍ ملوَّنٍ من أوائل القرنِ العشرين، إحداها موقَّعةٌ من قِبل الفنَّانين الفرنسيين المرموقين موميجان.
الفندق يوفِّر تجارب لطيفة لاستكشاف المبنى التاريخي
وبالعودةِ إلى وصولنا للفندقِ الفاخر، كان الاستقبالُ رائعاً، ويليقُ بكلِّ ما يحمله هذا المكانُ من إرثٍ مميَّزٍ، إذ قام موظفُ الاستقبال، بعد عمليَّة تسجيلِ دخولٍ سريعةٍ، بتقديمِ العصيرِ الطبيعي لنا، مع تزويدنا حسبَ رغبتنا بزجاجاتٍ، تحتوي على زيوتٍ عطريَّةٍ، توجدُ في منصَّة الاستقبال، لتعطيرِ الغرفةِ بها يومياً، بالتالي خلقُ تجربةٍ لا تنسى من خلال ارتباطِ المكانِ بالروائح المنعشةِ التي تفوحُ في المنطقة، إذ تشتهرُ بصناعةِ العطور. وقد لفتني، بعد دخولي إلى غرفتي، التصميمُ الراقي للمكان، إذ تنفردُ غرفُ فندق بالاسيو جران فيا، رويال هايداواي Palacio Gran Vía, a Royal Hideaway Hotel بتصاميمها الأنيقةِ والمتناغمةِ مع الأصالة، إلى جانبِ ألوانها الهادئة، والأقمشةِ الدافئةِ فيها، وقطعِ الأثاث الخشبيَّة، وكثيرٍ من التفاصيلِ الجميلةِ الأخرى التي تمنحُ شعوراً بالفخامةِ والرفاهيَّة. وإثر استراحةٍ قصيرةٍ لتجديدِ النشاط بعد رحلةِ الطيران، كان موعدُ العشاء في مطعمِ إل باتيو El Patio، وهو المطعمُ الرئيسُ في الفناءِ الداخلي، ويقدِّم وصفاتِ البحرِ الأبيض المتوسط الشهيَّة. وفي الصباحِ، بدأنا يومنا مع التجاربِ اللطيفةِ التي يوفِّرها الفندقُ لاستكشافِ المبنى التاريخي، والترَّاس، الذي يُعدُّ من أجملِ الشرفات الخارجيَّة في المدينة. بعدها انطلقنا برحلةٍ سيراً على الأقدام في منطقةِ قلبِ المدينة، لنتعرَّف على الأسواقِ التقليديَّة، خاصَّةً «سوق القيصريَّة» the Alcaicería Market، والمباني الأثريَّة، والكاتدرائيَّة Royal Chapel of Granada، وساحةِ إيزابيل لا كاتوليكا Isabel La Católica Square، وتناولنا وجبةَ الغداء في Los Manueles، وهو واحدٌ من أقدمِ المطاعمِ في المدينة التي تقدِّم أطباقاً من المطبخِ الأندلسي، وأطباقَ التاباس الإسبانيَّة، إذ يعودُ إلى عام 1917.
يمكنك أيضًا الاطلاع على نصائح مساعدة في اختيار الوقت المناسب لزيارة إسبانيا
قصرَ الحمراء الأشهر بين القصورِ في العالم
وبعد جولةٍ ممتعةٍ، عدنا إلى الفندقِ، وإثر استراحةٍ قصيرةٍ، توجَّهنا لخوضِ تجربةٍ جميلةٍ أخرى، وهي صنعُ العطرِ الخاصِّ حسبَ الرائحةِ المفضَّلة في قصرٍ من عصرِ النهضة «القرن الـ 16»، هو El Patio de los Perfumes. هناك تعرَّفنا على معادلةِ صنعِ العطور، وتجوَّلنا في أرجاءِ المكان التاريخي الذي يضمُّ ورشَ صنعِ العطور، ومتجراً لبيعها بمختلفِ أنواعها عقب صنعها في هذا المكانِ الأثري. كذلك تجوَّلنا في المنطقةِ الواقعةِ بين أسوارِ قصر الحمراء، والنهرِ الصغير، واستمتعنا بالطبيعةِ الخضراء المنسجمةِ مع الآثارِ التاريخيَّة، وأعجبني شخصياً ممشى الباسيو دي لوستريسEl Paseo de los Tristes، أحدُ أشهرِ الشوارعِ في غرناطة. ومساءً، تناولنا العشاء في مطعمِ طريق الزعفران Ruta del Azafrán الواقعِ في هذا الشارعِ الجميل، لنعودَ بعدها إلى الفندق. واستمراراً لبرامجِ الفندقِ الجميلة، بدأنا صباحَ اليومِ التالي بجلسةِ يوغا وسطَ نسماتٍ لطيفةٍ في الترَّاس، ثم تناولنا فطوراً صباحياً صحياً، تنوَّع بين الجرونيلا، والفواكه، والزبادي، وأنوعِ العصيراتِ المنعشة. عقب ذلك، قمنا بالجولةِ الأهمِّ في رحلتنا، وهي جولةٌ، يُنصَح بها كلُّ مَن يأتي إلى هذه المدينة، وهي زيارةُ قصرِ الحمراء Alhambra، التاريخي، أشهر آثارِ العمارةِ الإسلاميَّة، وقد رافقتنا فيها مرشدةٌ سياحيَّةٌ، زوَّدتنا بمعلوماتٍ مهمَّةٍ عن تاريخِ هذا المَعْلَم المذهلِ بكلِّ قصوره وحدائقه، لا سيما العريفُ في أعلى التل. وقد لاحظنا، بالقربِ من القصر، ورشةَ تاراسيا Taracea للحِرف اليدويَّة المتخصِّصة في ترصيعِ الصدفِ بالخشب من أجل صنعِ الأثاثِ والإكسسوارات، وهي حِرفةٌ، لا تزالُ مستمرَّةً منذ العصرِ الإسلامي في هذه المدينة. شاهدنا في الورشةِ الصغيرة الطريقةَ التقليديةَ شديدةَ الدقَّة لصنعِ هذه القطع. وبعد الظهر، عدنا إلى الفندق، وتناولنا وجبةَ الغداء بمطعمِ ميرالبا Miralba في الترَّاس وسطَ إطلالاتٍ مذهلةٍ على غرناطة. وعقب استراحةٍ قصيرةٍ، استمتعنا بإحدى الفعاليَّات الجميلةِ مع عرضِ الفلامنكو بكهفٍ غجري تقليدي في حي ساكرومونتي Sacromonte، ثم ذهبنا في نزهةٍ لطيفةٍ، وقتَ الغروب، في حي البيازين Albaycín المدرجِ في لائحةِ التراث العالمي لـ «يونسكو»، وأكملنا جولتنا بتناولِ الطعامِ بمطعم توماساس Tomasas في الحي الأثري، الذي يقدِّم مأكولاتٍ متوسطيَّةً وسطَ مناظرَ رائعةٍ على قصرِ الحمراء.
وفي اليومِ الثالث لرحلتنا الاستثنائيَّة الجميلة، تناولنا بدايةً وجبةَ الفطورِ الصباحي في مطعم إل باتيو El Patio، ثم زرنا مصنعَ السيراميك التاريخي اليدوي «فاجالوزا» Fajalauza (Fábrica de cerámica y azulejos de Granada). وفي المكان، تعرَّفنا على التقنيَّة المستخدمةِ في صناعةِ السيراميك بغرناطة منذ بدايةِ القرن الـ 16، وتجوَّلنا بعدها في حي البيازين Albaycín حيث شاهدنا البيوتَ الجميلةَ المطليَّة باللونِ الأبيض، وأزهارَ الجهنميَّة التي تنسدلُ على الأسوارِ في الحي الإسلامي القديم المتميِّز بشوارعه الضيِّقة، لنصلَ، دون أن نشعرَ بالطريق، إلى كالديريريا Calderería، وهو سوقٌ تقليدي مغربي، حيث تناولنا وجبةَ الغداء في أحدِ المطاعم المغربيَّة التقليديَّة.
وبعد عودتنا إلى الفندق، حظينا بتجربةِ احتساءِ الشاي في لاونج لا سوكورسال La Sucursal على الطريقةِ التقليديَّة مع طرقِ إعدادِ الشاي، والحلويات منزليَّة الصنع. ولن أنسى أبداً جلسةَ المساجِ التي استمتعنا بها لمدةِ ساعةٍ في اليومِ الأخير لنا بالفندق، إذ كان التوقيتُ مثالياً بعد رحلةٍ جميلةٍ، تعرَّفنا فيها على مدينةٍ استثنائيَّةٍ بكلِّ ما تضمُّه من تاريخٍ عريقٍ، وإطلالاتٍ ومناظرَ طبيعيَّةٍ رائعةٍ، وطقسٍ لطيفٍ. يمكنني، بعد هذه الرحلةِ، التأكيدُ أن الزمانَ والمكانَ في غرناطة، لا شبيه لهما. هي مدينةٌ مميَّزةٌ، تقدِّم الكثيرَ لزائريها، كما أن التجربةَ بالإقامةِ في فندق بالاسيو جران فيا، رويال هايداواي Palacio Gran Vía, a Royal Hideaway Hotel، تجعلُ الزيارةَ أكثر من رائعةٍ.
نعم، غادرتُ غرناطة، لكنَّ الحقيقةَ أنني لم أغادرها، إذ أستطيعُ القولَ إن جزءاً مني، بقي في هذه المدينةِ الآسرة.
يمكنك متابعة الموضوع على نسخة سيدتي الديجيتال من خلال هذا الرابط
نكهات أندلسية أصيلة في فندق بالاسيو جران فيا