قال بندم:عشت فترات عصيبة في طفولتي ومراهقتي، فقد كنت أقدم لوالدي كشف حساب يوميًا عن كل صغيرة وكبيرة أفعلها. كان اللعب غير مسموح، الجلوس بمفردي ممنوع، الخروج مع الأصدقاء ممنوع، ليس لديّ الحق في إبداء رأي أو اتخاذ قرار حتى النصائح كانت بصيغة الأمر، كنت أحيا مع أسرة تسخر من مشاعري وأحلامي، لكن الحياة تستمر وتسكن الجروح مخلّفةً ندوبًا لا تزول آثارها بسهولة، وهذه المحن زرعت بداخلي تقديسًا للحياة الزوجيَّة ورغبة بتكوين عائلة بعيدة عن المشاكل التي صادفتها والمعاناة التي عشتها، فخططت لحياتي وبذلت كل جهدي للوصول للنجاح. كنت أعمل ليل نهار، وفي ظل انشغالي كان عليَّ الاختيار بين حياتي وحياتهم واخترت حياتهم، لكن بطريقتي وبمفهومي، فعشت لهم ومن أجلهم وقررت ألا أرغمهم على أي قرار، ومنحتهم حريَّة اختيار مسار حياتهم والاعتماد على أنفسهم من دون تدخل مني، وكنت أتمنى أن أراهم الأفضل في الشخصيَّة والسلوك والعلم والمعرفة والمكانة والمركز، ووضعت نفسي في دائرة العمل تحت بند تلبية الاحتياجات، وتخيلت أنَّ هذا كل ما يحتاجونه مني كأب، وكلما حاولوا مناقشتي أو طلب استشارة أو نصيحة كنت أرد عليهم بأنَّ لهم مطلق الحريَّة في اتخاذ قراراتهم. ومرت السنوات سريعة من دون أن أشعر، وحين أفقت وجدت أن أبنائي كبروا وتخطوا مرحلة الطفولة والمراهقة وهم على أبواب حياتهم العمليَّة وبناء أسرة جديدة، فقد كنت غائبًا عن حياة أهم وأقرب الناس لي، حاولت أن أصلح ما يمكن إصلاحه، وأن أتسلل لتفاصيل حياتهم وأبني علاقة قرب معهم، وأن أبذل كل وقتي؛ لأعوض ما أهدرته ولأعرف بماذا يفكرون ومن أصدقاؤهم، وكيف رسموا مستقبلهم. وما هي اهتماماتهم، فوجئت بأننا أصبحنا غرباء، فهم يتكلمون بلغة لا أفهمها وكأني أحيا في كوكب آخر غير كوكبهم. مع كل الألم اكتشفت مدى تباعد المسافات وعمق غربتي وغربتهم. كم أتمنى أن أصادقهم وأستعيد ثقتهم بعد أن تركتهم حين كانوا في أشد حاجتهم لي، وحين قررت العودة وجدتهم لم يعودوا يحتاجونني بعد أن افتقدوا شعورهم بوجودي، نعم لقد أخطأت في حقهم، لكن أخطأت في حق نفسي أكثر، فقد تركت أجمل سنوات عمري تتسرب مني من دون أن أشعر بأبوتي، وتخيلت أنَّ تلبية احتياجاتهم هي الطريق الوحيد لبناء مستقبلهم، ومع الأسف وجدت أنَّهم رسموا وصنعوا مستقبلهم من دون مساعدتي. حاولت التقرب منهم فصدمني حاجز نفسي وفكري واجتماعي وثقافي بيني وبينهم، فقد كنت بالنسبة لهم الأب الموجود على قيد الحياة بجسده فقط، كنت مخطئًا حين عوضت حرماني بالعطاء لهم.. فهل حقاً فشلت؟
أنين الآباء
بني.. بنيتي... أرجوكم لا تدعونا كورقة في مهب الريح. أرجوكم لا تتركونا للناس. أو الغرباء فيذلونا.. أرجوكم لا تتركونا للأطباء فيعبثوا بأجسادنا.. أرجوكم لا تحرمونا من رؤيتكم.. فأنتم الروح.. أرجوكم لا تملوا من وجودنا.. فلن نبقى طويلاً.. دعونا حولكم.. ووعدًا منَّا: لن نشتكي.. لن نطلب.. لن نتذمر.. لن نتكلم.. لن نهمس.. لن نتحرك.. لن نبكي.. لن نتألم.. وحتى لن نتنفس، فقط سنكون كصورة على حائط في منزلنا. أقصد في منزلكم.
عدنان عبد العزيز