"ماليزيا" وحمّى التسوّق تحت المطر!

يحيل كلام المرشد السياحي إلى عصر أسطورة السلاطين: فـ "ماليزيا" مكوّنة من 13 ولاية و3 أقاليم اتحادية، ويحكم كل ولاية سلطان، يرأسهم سلطان السلاطين الذي يتغيّر كل 5 أعوام، لكنّ بناءً حضارياً يضمّ كل مظاهر الحداثة، كان يشدّنا ثانية إلى الحاضر، ويبدأ بكلمة "سلامات داتنغ" التي تعني "مرحبا" في اللغة الماليزية، تعلّمناها لنردّ التحية بما يقابلها، فهي بداية عربون الاحترام في ذلك البلد.

ساعات الرحلة على "الخطوط الماليزية" كانت طويلة، لكن الرغبة بالوصول تجاوزتها، وبعد انتظار "ترانزيت" في "كوالالمبور"، اتّجهنا إلى "جوهور" في أقصى جنوب شبه الجزيرة الماليزية، ووصلنا في تمام العاشرة صباحاً إلى فندق "بوتري باسفيك". هذا الأخير بسيط، تغمره سعادة تبدو على وجوه من يعملون فيه، لم نعهدها كثيراً في فنادق النجوم الثلاث العربية.

وتجدر الإشارة إلى أن اسم "جوهور" مشتقّ من كلمة "جواهر" التي تعني "الحجارة الكريمة"، وربما يكون للأمر علاقة مع تجار التوابل العرب الأوائل هناك.

"جوهور" منطقة مفضّلة لقضاء عطلة نهاية الأسبوع بالنسبة لسكان "سنغافورة" الذين يتسوّقون منها حتى موادهم الغذائية بسبب ارتفاع الأسعار في بلادهم.

وبعد الظهر، توجّهنا إلى شواطئ مضيق ملاكا حيث تكثر التحف الأثرية التي تعود إلى التراث الملايوي، وهناك توقّفنا عند دكان "ماوار" للهدايا، وككل بلاد آسيا، إذا قال لك البائع بـ 200 رنجت أي العملة الرسمية، ما عليك إلا أن تقول له 100، فربما تأخذ قطعتك المفضّلة بـ 120 رنجت!

 الجو كان محيّراً، يميل إلى ارتفاع درجة الحرارة أحياناً، رغم أن السماء تنذر دائماً بهطول الأمطار، فقرّر مرشدنا السياحي اصطحابنا لزيارة "شلالات كوتاثنجي" على بعد 45 دقيقة بالسيارة من "جوهور بارو"، وكانت ساعتان رائعتان استمتعنا فيهما بطبق من المأكولات البحرية.

 

"لكسا جوهور"


في المساء، كنّا على موعد مع المسؤولين في السياحة الماليزية الذين جاؤوا للترحيب بـ 34 صحافياً أتوا من بلدان مختلفة، وللإعلان عن افتتاح PREMIUM OUTLET في حفل كان يميل للتسلية، لفتنا فيه كثرة الخطابات وطولها، ما عرّفنا إلى شخصية الرجل الماليزي عندما يتبنّى الإعلان عن حدث! وبعد أن تجاوزت الساعة العاشرة مساء، تحوّلت الجلسة إلى عشاء تعريفي بأطباق "جوهور" المميّزة، وكان لا بدّ من تذوّق طبق "لكسا جوهور" وهو عبارة عن خليط بين نوع من المعكرونة ومرق السمك والتوابل والبهارات، يضاف لمن يريد المزيد منها "السمبل" أي عجينة من التوابل. وكذلك، يجب تجربة "برياني قام"، وهو نوع من الأرز المطبوخ بالبهارات يؤكل مع الدجاج أو لحم البقر أو الغنم. وفي خلال تناولنا للطعام، استمتعنا بمشاهدة رقصات "كوداكبانج" التقليدية المشهورة، وبعد نصف ساعة من حركات الراقصين الرشيقة بدأت دعوة كل من في الصالة لمشاركتهم تلك المتعة.

وبعد الافتتاح الذي حضره رئيس وزراء ماليزيا، أعطي كل الحاضرين حسماً مغرياً، وفي خلال تجوالنا في المكان الذي يشبه مدينة، كنا نفاجأ عندما نرى محلاً مقفلاً لأنه مليء بالمشترين، يطول فيه طابور من عشرات الشبان والشابات الذين يقفون بانتظام، وينتظرون فتح الباب لتحصل الفتاة على حقيبة من تلك الماركة، ينافسها في الحصول على مثيلتها الشباب.

في المساء، تركت لنا الحرية للبحث عن وجبة تناسبنا، وبين المطاعم الهندية والصينية والتايلندية، وجدنا أن من يزور "جوهور" عليه أن يحاول تذوّق "أوتاك-أوتاك"، وهو نوع من الكعك السمكي المشوي على الطريقة التقليدية وملفوف في ورق جوز الهند. ولم ندع هذه المدينة سوى بعد أن عشنا تجربة "السبا" في فندق "بوتري باسفيك" الذي أعادنا بخصوصيته إلى سحر الشرق، بدءاً بمشروب الزنجبيل وليس انتهاء بتلك الأنامل التي تتقن فن التدليك على الطريقة التايلندية.

 

أبعد من السماء

في اليوم التالي، عدنا إلى "كوالالمبور" حيث بدأ الجو يميل إلى أن يكون شتوياً، وهناك في فندق "جراند ملينيوم"، أسعفنا القدر بأننا كنّا وسط المدينة، قريبين من البرجين والسوق الصيني. حتى أبعد مكان ننوي الذهاب إليه، لم يكن ليتجاوز بالسيارة أكثر من 10 دقائق، لكن زحمة السير وسط انهمار المطر، أعادت إلى ذاكرتنا تلك الساعات التي كنا نقضيها بين دبي والشارقة، منذ سنوات! هذه الحال دائمة في عاصمة الشرق "كوالالمبور"، فالأفضل أن يرتدي السائح رداءً خاصاً بالمطر، ويقصد من هذا الفندق تحديداً المكان الذي يريده مشياً على الأقدام. وعندما خرجنا قاصدين "برج كوالالمبور"، ضحك المرشد السياحي ووعدنا بعشاء على الغمام الطائر، وكانت تجربة فريدة في طابق البرج العالي الدوّار والذي يشبه بتصميمه المنارات الحربية في الاسكندرية. أمسية مليئة بالذكريات لم نبحث فيها عن أبعد من السماء! كانت "كوالالمبور" تتغيّر خلال دقائق، فالبرج يلفّ بنا، ويضعنا بين وقت وآخر أمام معلم من معالمها، استمتعنا بتذوّق أشهى الأطباق الماليزية والعالمية، لكن المربك هو العودة إلى طاولة الأصدقاء، لأن دوران طابق البرج لن يوحي بأن الطاولة تحرّكت من مكانها، فأسعفت نفسي في المرّة الثانية وحفظت رقمها.


ولعلّ ما يجب فعلاً أن يراه المرء من المتنزهات العديدة في "كوالالمبور" هو "متنزه بيرد" Bird Park الذي كان وجهتنا في اليوم التالي، حيث يضمّ أكثر من 3000 طير من أشكال وأحجام وألوان وأصوات مختلفة من مئات الأنواع المحلية والأجنبية والتي تطير بحرّية في الأرجاء. كانت جولة صباحية منحتنا فرصة نادرة لالتقاط الصور مع الطيور، وما أدهشنا فيها الطاووس الذي لم يكن يرغب بالتقاط الصور مع أي كان!

ثم، اتّجهنا إلى منطقة "بوتراجايا" وهي العاصمة السياسية لماليزيا، تجوّلنا فيها حول مجلس الوزراء والبحيرة ومدينة "مهاتير محمد"، وعشنا مغامرة الصعود إلى الجسر المعلّق المؤلّف من طبقتين والذي يدعونه "جسر العشاق"، ولم نفوّت المرور بحديقة "بوتراجايا" ومسجدها والذي يسمح فيه بدخول جميع الطوائف، بعد ارتداء رداء زهري اللون يبعث على التفاؤل والتسامح بين الأديان. وفي أثناء جولة القارب، منحنا وقتاً جيداً للتصوير.


بقي الكثير في "كوالالمبور"، ولكن لا بدّ من الوقوف أمام برجي "بتروناس" التوأم للمصمم العالمي سيزار بيلي، ويبدو من زيارتهما أن الكثير من الماليزيين لم يقتنعوا أنهما لم يعودا أطول برجين ما بعد سنة 2004. يبلغ ارتفاعهما إلى الطابق العلوي 375 متراً، ويوجد بكليهما 88 طابقاً و78 مصعداً. لكن المسقط الأفقي لهما صمّم وفق النمط الهندسي الرائج في العمارة الإسلامية، وتصميمهما الخارجي يتضمّن السمات التقليدية للألحان الرسمية الماليزية للمباني.

ثم، جاء موعد الغداء في داخل مطعم عربي، وتركت لنا حرية التسوّق ليلاً، لتعيدنا الطائرة في صباح اليوم التالي عبر "الخطوط الماليزية" إلى "دبي"... رحلة شاقّة بساعات طائرتها، ممتعة بتنوّعها وعالمها الملوّن كقوس قزح.